رندة حلوم
غرابة التشكيل عند سعد يكن، كانت لغته الخاصة التي خاطب عبر مفرداتها المتلقي، مستلهماً من مخزونه المعرفي والبيئيّ ما يجعل من تجربته عنواناً للفن المعاصر المتشرّب بالتّراث والبيئة المحليّة التي نشأ فيها. كان الفنان دائماً من خلال تكويناته، هو المتّجه إلى ذاته بالدّرجة الأولى لإخراج ما فيها عبر الرّمز والتّعبير في الحركة اللونيّة، فكلّ منعكس خارجيٍّ له مستندٌ داخليٌّ، إمّا نفسيٌّ أو وجدانيٌّ
وفكريٌّ.
فكان في أعماله هذا النوع من السّمو إلى الذّات، وهو من أبرز المكونات التي أعطت التّكوين الفني لديه البعد المنزاح إلى الغموض غاية في تصيير الفكر والمعرفة والأسطورة والتّراث والبيئة كأدوات تعبيريّة.
للمقهى، ولا سيما "مقاهي حلب" وجود كبير في أعمال الفنان يكن، كتعبيرٍ موجزٍ عن عالم واسعٍ طافح بالمتناقضات والمتقابلات، ففي دمشق أو بيروت يُحدّد يكن المقهى الذي يرسمه في لوحاته مرات، ويتركه بلا تحديد "من دون ذكر اسم المقهى على اللوحة" مرات أخرى، لأنَّ حكايات المقهى من وجهة نظر الفنان تصلح لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، فمن خلال عناوين اللّوحات وتفاصيلها اللونيَّة والبنية الحركيَّة لشخوص اللوحة وتعابير الوجه والجسد يكتب الفنان بريشته حكايات وجوديَّة وواقعيَّة عميقة، تعبّر عن واقع الإنسان وشواغله الفكريَّة والنّفسيَّة والحياتيَّة، فحملت لوحات المقهى عناوينَ لافتة مثل "حواريات سياسيَّة في المقهى، مقهى بحري، أحلام يقظة لرجلٍ في المقهى، بقايا زبائن المقهى آخر اللّيل، ثلاثة رجال في المقهى، بار فريدي شارع العابد" والكثير من عناوين لوحات حملت الهم الإنساني وحوارات الواقع السياسي والاجتماعي من خلال مقهى يعجّ بالكراسي والأشخاص من الرّجال والنّساء لكلٍّ منهم حكايته ورمزه المرافق لحركة الجسد وتعبير الوجه وإيحاء اللّون.
رغم غشاوة اللّون الذي يقترب من الحياد في لوحات يكن، إلّا أنّ الاتجاه نحو داخل الفنان كان أقوى، حيث حمل من الموروث الفكري، ومن الميثولوجيا ما يُلائم ذاته المتماهية مع هذا الوجود وعبر بها إلى عالم الرّيشة واللّون، فكانت لوحاته حكايات تحتاج إلى قارئ يهوى الغوص في تفاصيل اللّون وفك رموز أقرب ما تكون ألف باء الحكاية وسطر الملحمة
أخذت.
ولقصّة الخلق والوجود حيّزاً من أعماله، كما غاص في ملحمة جلجامش ورسم موت أنكيدو أتقن يكن تشكيل ليالي ألف ليلة وليلة وكانت التّشكيلات بعيدة عن الإبهار البصري مستندة إلى العمق الدّلالي في طبيعة المنجز التّشكيلي. وكان من لوحاته الشهيرة ما قد حمل عناوين لافتة "حروب ونساء الملك شهريار، موت أنكيدو، الدّراما الإنسانيّة منذ البداية كانت التّفاحة، أنجلوس، شهرزاد الصباح".
ومن بيئته التي تربّى فيها ولدت شخوص الفنان ولوحاته، وكانت تلك الولادة على المسرح، المكان الذي أخذ حصّةً من تجربة يكن لمنحازة إلى الإنسان كعنوان أبرز في الوجود، فالعلامة الفنيَّة الأولى في أيِّ عمل من أعماله هي الإنسان، وإن اختلفت حالاته وطريقة التّعبير عنها في المسرح، مثلا كان كلّ شخص يغني على ليلاه، وإن كانت الجوقة واحدة، ومن العناوين البارزة لأعماله تلك "أوركسترا فيفالوي، أوركسترا في ضوء القمر، مسرح.. فنانون يتراشقون بالحجارة".
على الرغم من أنّ توجهات دلاليّةٌ معيّنةٌ شغلت ريشة الفنان سعد يكن إلّا أنّه اقترب من التعدديَّة والكثرة من خلال الموضوعات الفنيَّة التي زاحمت بعضها في الظّهور على ساحة التّشكيل الحداثي الحر، فتشكيل يكن حرّ، لأنّه لم يمشِ على وفق خطوط مرسومة سابقاً لمدارس قديمة فقد خرج الفنان من قيود عديدة منها التشريح، والمكان من حيث هو مساحة تراكميّة إلى حيث التعدديَّة الدلاليَّة، فبحر بيروت في لوحاته التي حملت عنوان "بحر بيروت" هو أكثر من مكان، هو "الشّيخ والبحر" لهمنغواي، ولوحة "أحزان فراشة" هي أكثر من لوحة هي "الهم الأنثوي"، و"العود" و"قلعة حلب" هما موروث في ذهنيَّة الفنان والمتلقي للعمل الفني على حدٍّ سواء، كلّ هذا وذاك التّثوير الدّلالي جعل من يكن فناناً رائداً، تعرض لوحاته في أهمّ المتاحف
بالعالم.