مـــــــأزق النســــــتالوجيـــــــــــا
عبد علي حسن
اهتمت العلوم الإنسانيَّة بظاهرة النفي والمنفى بعدها من الظواهر التي رافقت ظهور السلطة كقوة لتنظيم المجتمع ومجابهة أي قوة تهدد وجودها وعلى كافة المستويات والسياسيَّة منها على وجه الخصوص، فعمدت إلى نفي كل من يشكل خطرا أو ازعاجا لتلك السلطة، فظهرت على امتداد تأريخ العلوم الإنسانيَّة من فلسفة واجتماع وأدب مفاهيم عديدة وكل يراها من زاويته الفكرية والمعرفية الخاصة به. وإذا كان المنفى - وفق مواضعة على هذا التعريف- بأنه فصل شخص أو مجموعة عن مجتمعهم الأصلي وإجبارهم على العيش في مكان آخر، غالباً لأسباب سياسيَّة أو دينيَّة أو عرقيَّة، وقد يتم النفي بقرار من الحكومة أو السلطات الحاكمة، أو قد يكون النفي جراء هرب الشخص أو المجموعة من مناطقهم الأصلية بسبب تعرضهم للاضطهاد أو الملاحقات، وعلى الرغم من وجود أنماط وأنواع مختلفة للمنفى إلا أن الهدف المشترك هو فرض سيطرة أو عقاب على من ينفون، ونتيجة لذلك فإن المنفيين يتعرضون لآثار نفسية واجتماعية سلبية جراء فقدانهم بيئتهم الاجتماعية والثقافية المألوفة.
ويترتب على هذا النفي الإجباري والطوعي على حدّ سواء جملة من الآثار السلبية لعل في مقدمتها انقطاع التواصل الهوياتي بين الفرد والجماعة التي كان ينتمي إليها، إذ أن ما يشكّلُ الذاكرة البعيدة وما يستقرّ بها هو مجموعة من العوامل الاجتماعية والتأريخية والنفسية والفكرية التي تعدّ قواسمَ مشتركة لأفراد الجماعة وتؤثر في تكوين الشخصية وفواعل وجودها الفردي والجمعي. وازاء ذلك فإن أوّل ما يواجه المنفي في المجتمع الجديد/ المنفي إليه هو ضرورة الحفاظ على هويته أياً كان نوعها ليبقى متصلاً بالجذور التي كوّنتها. إن هذا الحفاظ على الهوية هو محاولة الحفاظ على وجود الشخصية في وسط اجتماعي بثقافة متأصلة ومختلفة عن ثقافة المنفي، ومن بين عوامل تعزيز تلك الهوية هو ما كوّن الشخصية في الماضي الماقبل النفي، فتظهر حالة الحنين إلى الماضي باعتبارها الهوياتي، وبمعنى آخر فإن ما كوّن تلك الهوية هو الماضي بكل تفاصيله السلبية منها والإيجابية، وقد تمت المواضعة على مصطلح "النستالوجيا" ليشير إلى حالة الحنين إلى الماضي، لذا فإن النستالوجيا تعني اصطلاحاً "معاناة تسببها الرغبة غير المشبعة للعودة" حسب المفهوم اليوناني، فهي تعبر عن الحنين للماضي والألم الذي يعاني منه الإنسان وحنينه للعودة إلى بيئته وموطنه الذي طرد منه وخوفه إلّا يتمكن من العودة إليه. الأمر الذي يدفع بالمنفي إلى التمسك بالماضي لعدم توفر القدرة على الاندماج بالمجتمع الجديد، على أن هنالك مساهمة من قبل علم النفس لوضع مفهومه الخاص الذي يتلخص باعتبار هذا الحنين آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة. ويلاحظ أن كلا المفهومين يكرّسان حالة الانفصال الاجتماعي التي يعاني منها المنفي وشعوره بالوحدة لعدم تمكنه من ممارسة هويته الضائعة فيلجأ إلى الماضي الذي يؤكد ويكرس حالة الانتماء لتلك الهوية. وعلى مستوى تأثر الفنون الأدبية بالظواهر الاجتماعية والسياسية فإن لظاهرة النستالوجيا تأثير واضح، إذ تتجلى في الفن الروائي على مستوى عالمي وعربي وعراقي، بعدّ الرواية هي فن استعادة الماضي أولاً ولأن مساحة الاحتدام والجدل الدرامي الناجم من إثارة الأسئلة تبدو أكبر من مساحة اي فن ادبي آخر، إذ أن الرواية تطرح تساؤلات حول الهوية والانتماء، حيث يعاني الأفراد من فقدان الهوية في ظل المنفى. الأمر الذي يخلق تحديات بخصوص الحفاظ على اللغة والثقافة، فضلاً عن التحدي الكبير الذي تواجهه مشاعر الفقدان والاغتراب، إذ تعاني الشخصيات من عدم القدرة على العودة إلى الوطن، مما يزيد من شعور الشخصيات بالانفصال عن جذورها. ولعل نزوع الروائيين في طرح موضوعة النستالوجيا هو الصعوبة التي تواجه الشخصيات في التكيّف مع الواقع الجديد الذي تعيشه في بلد المنفى، فتلجأ إلى استعادة الماضي والذكريات الجميلة والحنين إلى الوطن، لذلك فإن هذه التحديات تسهم في تشكيل تجربة الشخصيات وتطور الأحداث، مما يجعل الرواية تعكس عمق تجربة المنفى بشكل مؤثر، وهنا تلعب النستالوجيا دورا محورياً في تشكيل العلاقات بين الشخصيات وتؤثر عليها بطرق عديدة منها أن الحنين إلى الوطن يربط الشخصيات بعضها ببعض عبر الذكريات والتجارب المشتركة مما يعزز التضامن والإلفة بينهم، كما أن مشاعر النستالوجيا يمكن أن تؤدي إلى صراعات داخلية بين الشخصيات، ففي الوقت الذي يسعى فيه البعض إلى التمسك بالماضي فإن البعض الآخر يفضل المضي قدماً كمحاولة للتكيف مع الوسط الاجتماعي الجديد، مما يخلق توترات واختلافات في الرؤى تعكس وجهة نظر النص الروائي، كذلك تطرح بعض الروايات تأثير فقدان الوطن والأحبّة على الشخصيات فتجد صعوبة في الاندماج والتكيف وخلق علاقات جديدة في بلد المنفى.
ولو استعرضنا رواية الشتات/ المنفى العراقية لوجدنا المأزق النستولوجي حاضرا في موجهات هذه الرواية، فعلى سبيل المثال فإن أغلب إن لم يكن كل ما أنجزه الروائي الراحل غائب طعمة فرمان في بلد المنفى روسيا منذ خروجه من العراق في خمسينيات القرن الماضي وحتى وفاته هناك، لم يكن إلّا الذاكرة العراقية التي استنزفها الروائي، وعكست مدى تمسكه بالماضي العراقي الذي عاشه وعاشته شخصيات رواياته، إذ أن هذا التواصل (الذاكراتي) قد امدّ الروائي بعوامل الحفاظ على هويته التي أجبر على فقدانها بهجرته إلى روسيا وقبوله على مضض بالمنفى وطنا لم يكن بأي حال بديلاً عن وطنه العراق، لذلك فضّل البقاء في منطقة الإحساس الدائم بفقدان الوطن والهوية عبر استعادة ذلك الماضي الذي كوّن شخصيته الفكرية والإبداعية، وعن هذا الحرص في بقاء منجزه الروائي في منطقة الماضي والحنين إلى الوطن يقول "الغربة بالنسبة لي كانت حباً وشوقا إلى وطني، وكانت امتحاناً قاسياً للوطنية عندي" وحول ذلك تشير الناقدة يمنى العيد في معرض كتابتها حول رواية "المركب" أن "المركب وسيلة عبور وعنوان مرحلة للمدينة التي غادرها غائب ولم يعد إليها، المركب لاتحكي الماضي بل الحاضر المكتظ بالمعاناة التي تدفع راكبيه إلى الالتفات إلى ماضيهم بحسرة".
ولعل هذا الإحساس كان حجر عثرة أمام تخليق تجارب روائية جديدة في وطن المنفى طيلة وجوده هناك على الرغم من معرفته الجيدة بالحياة الروسية، الّا أننا نعتقد أنه كان يتجنب الخوض في الحياة اليومية لروسيا السوفيتية، فحتى لو أراد أن يكتب تجربة جديدة بعيدة عن الذاكرة العراقية فإنه يكتب عن شخصيات تعاني من الغربة والحنين إلى الوطن/ الماضي، وكذلك يمكننا القول حول الروائيين العراقيين الذين اختاروا المنفى طوعا أو كرها للخلاص من عوامل الضغط السياسي أو الديني أو الاجتماعي كما في روايات انعام كجه جي وبعض روايات سنان انطوان كـ "وحدها شجرة الرمان"، ويكاد الروائي علي بدر أن يغرد خارج هذا السرب في العديد من رواياته التي شهدت تجارب عكست قدرة الشخصيات الروائية على اِقامة علاقات جديدة في بلد المنفى والتكيف مع الوسط الاجتماعي الجديد كما في رواية "عازف الغيوم" إذ تم طرح مجمل التحديات الهوياتية والثقافية التي تواجهها الشخصيات في بلد المنفى، ونعدّ اغلاق التجربة الروائية وحصر اشتغالها على مبدأ النستالوجيا فقط مأزقاً يكرّس ثقل الشعور بالحنين إلى الماضي، كما أنه يغفل التجارب الجديدة التي يعيشها الروائيون، خاصة تلك التي تتعلق بالتحديات التي تواجه الشخص المنفي للحفاظ على هويته الثقافية أو صعوبات الاندماج في الوسط الاجتماعي الجديد، ومن الممكن الخروج من هذا المأزق عبر جملة من الاجراءات التي تضع المنجز الروائي المنتج في المهجر أو المنفىٰ في منطقة محايثة التجارب الآنية التي تخوضها الشخصية المنوفية أو المغتربة، ومن هذه الإجراءات التي تسهم في تخليق ذاكرة جديدة على سبيل المثال هي ممارسة الوعي الذاتي والتأمل الذي يساعد في تعزيز الحضور الذهني وتقدير اللحظة الحالية، كذلك وضع أهداف واضحة للمستقبل من الممكن عبرها أن تشغل الذهن وتخفف من التركيز على الماضي، كما أن الانفتاح على تجارب جديدة مثل الهوايات والأنشطة الاجتماعية يمكن أن يخلق ذاكرة جديدة ويعزز الشعور بالايجابية، على أن أهم هذه الإجراءات هو محاولة النظر إلى الماضي بواقعية، وتقبّل حقيقة أن هناك إيجابيات وسلبيات في كل فترة زمنية، إذ أن هذه المحاولة يمكن أن تسهم وتساعد في تخفيف الشعور بالحنين، وعبر ذلك يتم التركيز على القيم والمبادئ التي تعزز الشعور بالسعادة في الحاضر لتكون بديلاً إيجابياً للنستالوجيا، على أن تضع هذه الإجراءات في الحسبان الحفاظ على الهوية الثقافية التي شكّلت الملامح الجوهرية للشخصيات دون ضياعها في خضم التفاعل الاجتماعي الجديد، بل تنطلق منها في لتعزيز تلك الهوية عبر اقحامها في عملية تشكّل الذاكرة الجديدة وتوفير فواعل استمرار الذاكرة لما قبل النفي وادماجهما لخوض تجارب الحاضر، إذ يحتاج الكتاب الروائيون إلى إيجاد توازن بين الاستفادة من التجارب الماضية وابتكار سرديات جديدة تعكس الواقع الحالي، وفي هذا السياق يمكن للروائيين التركيز على القصص الشخصية وتجارب الحياة اليومية للمهاجرين مما يخلق اتصالاً مع القارئ ويعطي أهمية للواقع الراهن، اخلص إلى أن "النستالوجيا" جزء طبيعي من الحياة، ولكن التوازن هو المفتاح.