د. عبد الجبار الرفاعي
كلمة الله حين تتجسد في لغة بشريّة تلتبس بما هو بشري، فلا تحكي هذه اللغة كلمة الله كما هي، بل تشير إليها بما يتناسب مع وعاءِ اللغة وخصائصها البشرية. كلمة الله للبشر لا يمكن أن تتسعَ لها لغتهم ما لم تتنزل إلى عالمهم المحسوس، أي أن معانيَ كلمةِ الله تتشكل بهيأةٍ يمكن أن تؤشرَ إليها اللغة البشرية، بإشاراتٍ تتناسب وطبيعتها، إن كانت تعجز عن أن تبوح بمعانيها.
الضيقُ يعود إلى عجزِ ظرفِ كلمات اللغةِ البشريّةِ وقصورِ وعائها المحدود عن استيعابِ ما هو إلهي لا محدود. كأنّنا هنا أمام أستاذِ فيزياءٍ يقوم بشرحِ نظريّةِ أنشتاين لتلميذٍ في الصف الأول الابتدائي، أو يحاول أن يشرح له أعقدَ المسائل الرياضيّة. في حالةٍ كهذه لا بدَّ أن يتحدّث الأستاذُ بلغةٍ تحاكي استعدادَ ذهنِ ذلك الطفل وإمكاناتِه في الفهم، فيلجأ للتعبير بكلماتٍ مبسّطة تعبّر عن رؤيةِ الطفل المحدودةِ للعالَم من حوله، كي تكون هذه الكلماتُ قادرةً على إنتاجِ معنىً يتناسب ووعاءَ فهمِ الطفل.
لغةُ الدين المختصة بالغيب تخاطب القلبَ قبل العقل، وتوقظ الروح، وتلامس المشاعر، وتبعث الضمير. تشي بالإشارة عندما تعجز العبارة، والتلميحِ عندما يتعذّر التصريح، وهي في كلِّ ذلك تتوسّل بالرمزِ والمجازِ والكنايةِ والاستعارةِ والإيحاء. إنّها لغةٌ رؤيويةٌ تسعى للقبضِ على معنىً لا محسوس ولا تاريخي ولا زماني ولا مكاني ولا مرئي ولا محدود، وإيداعِه في قالبٍ محسوسٍ ومرئي وضيّق ومحدود. مثلُ هذه اللغة تتعدّد مراتبُها، وتنشد تلبيةَ مستوياتٍ متنوعٍة من الفهم، ومراعاةَ درجات مختلفة للتذوق. هذه اللغةُ يتخطّى نداؤها العقل، إنّها نداءٌ يتّجه لإيقادِ طاقاتِ الروح، وإيقاظِ الضمير، وإحياءِ القلب، وشحذِ المشاعر، وإثارةِ الأحاسيس.
لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه اللامحدود، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه. التعرّفُ على الغيبِ في القرآن الكريم إنما يكونُ من خلال ما تتحدّث به آياتُه، وهكذا في الكتب السماويّة التي تتحدث عن الغيب. الحياةُ الروحيَّة هي الأفقُ الأجلى الذي تظهر فيه آثارُ الغيب في حياة الإنسان، وهذا الأفقُ لا يتطابق مع الأفقِ المادي الذي تنكشفُ فيه قوانينُ الطبيعة. لا يخضع الغيبُ في اكتشافِ حقيقته ومعرفةِ كيفيته للعلمِ ومناهجِ البحث العلمي، وإن كانت العلومُ هي الأداة الأساسيّة في التعرُّف على تأثيرِ الغيب في الواقع، ودراسة تعبيراته في الحياة الفرديَّة والمجتمعيَّة.
يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن الكريم وغيره من الكتب السماويَّة، ومن العبثِ تطبيقُها في اكتشاف الحقائق غير المادية وما هو خارج الطبيعة. عوالم الغيب حقائقُ تنتمي إلى ما وراء الطبيعة، لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس وغيره من العلوم الإنسانيّة أن تفسِّر الغيبَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي، والنظرُ إليه في أفق الطبيعة والمادة. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار، كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة.
يمكن التعرّفُ على شيءٍ من ملامحِ الغيب وصفاتِه ومظاهرِه وتجلياتِه بما تتحدّث به آياتُ القرآن والكتب السماويَّة. الآياتُ تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزيَّة، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصورة المادي والمحسوس وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ بالحواس، إلا أنّه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها لأنّها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن بالتمثيل بالأشياء المادية وتشبيهها وتقريب فهمها بالمحسوسات.
إثر عجز الإنسان عن تمثّل الغيب والحقيقة الإلهيَّة كما هي، كانت لغةُ الدين المختصّة بالغيب رمزيَّة. الرموز لا تبوح بالمعنى، بل تؤشر إلى شيءٍ مما يتذوّقه العارفُ لحظة انغماسِه في أحواله، وغيابِه عن أقواله، وكأنَّ ما يحدث رؤيةُ لمعان غيثٍ عبر البرق في ليلة حالكة الظلام. لغةُ الإشارات لغة رمزيَّة، يتذوّقها مَن يتسامى إلى الحالات، إنّها لغةٌ مشبَّعة بالمعنى تبهج الإنسانَ المسكون بالأنوار.
لغة الدين المختصّة بالغيب تعجز عن التعبير عن حقيقة الغيب، وهذا العجزُ يعودُ إلى عجز الإنسان عن تصور الحقيقة غير المحسوسة كما هي. الإنسان يتصور الغيبَ والحقائق الغيبيَّة بحسبه هو لا بحسب الغيب، الإنسان يتمثّل الغيب كما هو لا كما الغيب. يحتاج الإنسانُ بصيرةً تتذوّق ما تشي به اللغةُ الرمزيَّة من الدلالات العميقة، كي يرى ما وراء ظاهر آيات القرآن الكريم والنصوص الحاكية عن الغيب. وهذا ضربٌ من الرؤية الصافية لا يشوّهها إلا تشبّعُ اللغة الشائعة في الحياة الدينية بتسيّد رؤية علم الكلام والفقه ومعانيهما في فهم آيات القرآن والنصوص الدينيَّة، وإن كانت الآيات والنصوص تتحدث عن الحقائق الغيبيَّة.