ليندا هيتشون والنصّ المؤقلم

ثقافة 2024/09/25
...

د. نادية هناوي 


تعد ليندا هيتشون من أوائل المنظرين المهتمين بالأقلمة، ونفت أن يكون كتابها(نظرية الأقلمة) -الصادر عن روتلدج عام 2006- محدداً بتتبع تاريخ الأقلمة بقدر ما هو فحص لما تؤديه الأقلمة من وظائف مختلفة في ثقافات تنتمي إلى أزمان مختلفة، ووصفت نظرية الأقلمة بأنها ببساطة تعني محاولة إعادة التفكير في بعض القضايا النظرية وشكلاً من أشكال السفر والتماس والعبور والهجرة من سياق الإبداع الأصل إلى سياق الاستقبال المؤقلم. ووجهت اهتمامها نحو أقلمة الرواية بالسينما،
 وافتتحت الفصل الأول المعنون(البدء في التنظير للأقلمة)  بمقولة طاغور (السينما لا تزال تلعب دور المكمل الثاني بعد الأدب) واستعرضت دلالات الأقلمة من خلال الاستفهام بماذا ومن ولماذا وكيف وأين. وبينت أن الأقلمة كممارسة ليست جديدة ولا هي مرتبطة بالرواية، بل هي طبيعية ومنتشرة في كل مكان وأضافت:(إذا كنت تعتقد أن الأقلمة يمكن فهمها من خلال الروايات والأفلام وحدها فأنت مخطئ؛ بدليل أن الفكتوريين اعتادوا على الأقلمة في كل شيء تقريباً كقصائد وروايات ومسرحيات وأوبرا ولوحات وأغان ورقصات وبحيوية تختلف من وسيط إلى آخر. من الواضح أننا كنقاد ما بعد حداثيين قد ورثنا هذه العادة نفسها ولكن لدينا المزيد من المواد الجديدة ليس فقط الأفلام والتلفزيون والراديو والوسائط الإلكترونية المختلفة حسب، بل الحدائق والمتاحف وقاعات الألعاب والواقع الافتراضي) فنظرية الأقلمة ظاهرة شاخصة تتسع مع اتساع نطاق الواقع الافتراضي العابر لحدود السرد والموسيقى والمسرح والترجمة وغيرها. وما جعل أكثر دراسات الأقلمة تتجه نحو السينما هو أن أغلب الأفلام الفائزة بجائزة الأوسكار تؤقلم السرد الروائي بالفيلم السينمائي.

وتنطلق اهتمامات هيتشون في دراسة الأقلمة من نقدها للتصورات التي عليها قامت نظرية التناص، قائلة:(لطالما كان اهتمامي قوياً بالتناص والعلاقات الحوارية بين النصوص، ولم أشعر أنها مجرد قضية شكلية، بل كانت دائماً مصدر قلق، ودوافع تأليف هذا الكتاب تتمثل في مسألة نزع هرمية التناص وتحدي تعميمات القراءة السلبية لما بعد الحداثة والمحاكاة الساخرة والأقلمة التي ينظر إليها على أنها ثانوية وأقل شأناً. فحاولتُ استنباط النظرية من الممارسة على نطاق واسع قدر الإمكان، مستخلصة المضامين من الأمثلة النصية المتعددة وبمراحل مختلفة شكلانية وبنيوية وسيميائية ونسوية وما بعد استعمارية) فهيتشون تجد في العلاقات الحوارية بين النصوص، سياقات لا يصح إهمالها ولها تسلسلها الهرمي بين النصوص ومجموعة الوسائط المقارنة والمضمنة. وشاطرت روبرت ستام Robert Stam رأيه في أن مظاهر الأقلمة كثيرة وهي واضحة على مدى العقود الماضية بشكل يؤكد سلبية ما قامت عليه نظرية التناص عند كل من كرستيفيا ودريدا وفوكو. والمقصود بالسلبية أن التناص لم يعط أولوية لا إلى النص الأصل ولا النص المصدر كما لم يخلص أو يحترم ملكية النص السابق.

وأشارت هيتشون إلى أن تغيير هذه الصورة السلبية مرهون بالأقلمة، وطرحت مفهومين هما النص الأصلtext  original والنص المؤقلم adapted text وطبقتهما على دراسات سينمائية لأعمال أدبية، فيها تتوفر مساحات متنوعة لدراسة الأقلمة من أجل تحديد المصدر الأصل والنص الضمني وتأكيد فكرة الإخلاص Fidelity للنص السابق وأن للنص الأصل سلطة على النص المؤقلم. وفضلت لفظة المصدر source على الأصل original لأنه يجمع ما بين سلطة الأصل وميزات أسبقيته وبين أهمية التعامل معه بوصفه أكثر أهمية، ورفضت منظور هارولد بلوم حول إساءة القراءة أو القراءة الضالة للنصوص السابقة، وشددت على أن تعدد الوسائط الرقمية للأعمال الأدبية يتطلب دراسة أقلمتها من خلال النظر إلى الأصول والاعتراف بالمصادر. وأن ثمة حاجة ماسة إلى تنظيرات أوسع من أجل مواجهة تنوع ظاهرة الأقلمة، فهناك شخصيات وأعمال أدبية أصلية تتعرض للضرر الشديد بسبب تجاهل سبقها، وإهدار جهود مؤلفيها والاستهزاء بهم وبجمهورهم. فلقد صار النص الأصل يوصف بأنه أقل شأناً من النص المعدل كمثل القصة التي تمت أقلمتها عدة مرات على مدار ثلاثين عاماً من دون ايلاء اهتمام إلى سلسلة المؤقلمين من ناحية دوافعهم وهواجسهم المختلفة.

ورأت هيتشون أن قراءة الرواية قبل مشاهدتها ممثلة في فيلم تختلف عنها مشاهدة أولاً داخل الفيلم. وهذا الاختلاف ناجم عن هرمية إنتاج الأدب في الانتقال به Transformation  من سياقه الزماني والمكاني والمجتمعي والثقافي إلى سياق آخر أفقي، فيه النص المعدل مؤقلم بشكل من أشكال التكرار. ولا مفر هنا من الألفة أو الازدراء خلال عملية الأقلمة تحديثاً أو تغييراً أو توطيناً. وأن الذي يجعل التناص يصادر الأصل بالتدخل والانتهاك والتشويه والانحراف والتدنيس والخيانة هو عدم وضع الأقلمة في الاعتبار، واختصرت هيتشون ما تقدم بمقولة(إعادة تدوير الثقافة) واستعارتها من قول والتر بنامين: (سرد القصص هو دائما فن تكرار القصص وأن الأقلمة السينمائية تتشكل بالتدخل والانتهاك والتمويه والتشويه والتحريف. وعدت أقلمة السينما والتلفزيون بروايات دستويفسكي شكلاً أدنى، ومشكوكاً فيه واستجابة سلبية هي حتمية في عصر ما بعد الحداثة التي تشهد إعادة التدوير الثقافي Cultural Re-cycling بقصد النجاح التجاري وهو أمر لا نرتاح له.) ونقلت هيتشون عن فرجينيا وولف أنها شجبت عام 1926 فن السينما لأنه يبسط العمل الأدبي حين ينقله إلى وسيط مرئي جديد ووصفت الفيلم بأنه طفيلي وأن الأدب ضحيته، ولكن وولف توقعت أن تكون للفيلم قدرة على تصوير العواطف بلغة خاصة به، ممتلكاً عدداً لا يحصى من العواطف الرمزية التي يصعب العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عنها سردياً.

وتتبعت هيتشون أقلمة السرد بالمسرحية والموسيقى والأوبرا والباليه والأغاني التي فيها توظف الأدوات نفسها التي يستخدمها رواة القصص storytellers. وليست عمليات الأقلمة عبر التاريخ الثقافي ايجابية كلها، بل هناك اقتراض وسرقة ولكن يظل للأدب تفوقه البديهي على أي تناص بسبب قدم تسلسله الهرمي الذي يجعل المؤقلم بين أمرين: الأول هو الايكونوفيليا أي رهاب الشك البصري والآخر هو الالكوفيليا أي حب التقديس. أما الذي يؤثر في دارس الأقلمة فيتمثل - بحسب هيتشون - في رأس المال الثقافي والدوافع الشخصية والأغراض السياسية والتعلم بالممارسة.