أحمد عبد الحسين
نبدأُ بتغييرِ عالمنا في اللحظةِ التي نؤمنُ فيها بأنّ صورتنا عن أنفسنا زائفة. وندركُ في لحظةِ صحوٍ أنّ ما توهمناه عن أنفسنا والعالمِ مخلوقٌ منّا مردودٌ إلينا، وأنّنا بالوثوق الذي نتصوّر به الأشياء إنما نوثِق أنفسَنا إلى صخرة التقليدِ والاجترارِ والتلقين بوثاقٍ لا فكاكَ منه.
يكادُ يكونُ هذا الفهمُ جوهرَ الحداثةِ، فما منْ تحديثٍ يمكنُ تخيّلُه إلا وهو آتٍ على هيأةِ تحطيمِ صنمٍ أو فضحِ يقينٍ أو إشارةٍ إلى لطخةٍ سوداء في ثيابِ الملاك.
بهذا المعنى فإنّ حداثتَنا العربيةَ، أعني بها فهمنا للجوهر الذي تقدّم الكلامُ عنه، كانتْ شعريةً بامتياز. ففي الشعرِ وحده كانت الأصنامُ تتداعى: صنم الألفيات الخالدة في الرؤية والبيان والتعبير وصنمُ الموقف من التراث وأصنامُ ذواتنا الصمدية ونظرتنا إلى الآخر. كان معولُ الشعر يعملُ هدماً في كلّ ذلك. ولهذا تصلبتْ ـ منذُ الروّاد ـ قوى دينيةٌ وعُرفيةٌ وأيديولوجيةٌ ضدّ قصيدة التفعيلة تصلّبَها ضدّ قصيدة النثر لاحقاً. وفي كلّ ذلك كان هناك اسمٌ هو أيقونةُ هذا “الخراب الجميل”. هذا الاسم هو أدونيس.
قبل أنْ يكتبَ أدونيس “الثابت والمتحوّل” كان شعره يوزِّعُ بروقه على أجيال جديدةٍ صارتْ ممسوسةً به. وفيه، في الصميمِ من شعره، كان صوتٌ أقربُ إلى النبوءة “يفضّل أدونيس تسميته بالحدس هرباً من الطابع الدينيّ لكلمة نبوءة” يعملُ ببطء وطول أناةٍ على تحريض الآخرين على الهدم. كان هو العصفُ المؤدي إلى خراب منتظر. ألمْ يكتبْ: “جاء العصفُ الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميل”؟
غير أنّ ما استبطنه شعراً بَسطه أدونيس نثراً في “الثابت والمتحول” وسائر كتبه اللاحقة. إنه هنا كمن اضطرّ إلى تدوين صحائف مطوّلة لتفسير صرخة. ويحضرني هنا مثالٌ قد لا يكون دقيقاً مؤداه أنّ “الفتوحات المكية” لابن عربيّ ـ على اتساعه ـ ما هو إلا تفسير فلسفيّ لصرخة الحلاج “أنا الحقّ”.
بهذا المعنى كان نثرُ أدونيس في تدوينه الفكريّ ظاهراً مبسوطاً لباطن شعره. وبهما معاً، بالنثر والشعر، كان أدونيسُ صاحبَ فأسٍ في غابةِ تماثيل.
حداثتنا أدونيسيّة. وسواء عليك اتفقتَ أو اختلفتَ معه، تابعتَه أو أشكلتَ عليه، أوقفتَه في حيّزٍ سياسيّ لا تتبناه، أو تمنّع عليك فهمه، فإنّ الجزءَ الأوفرَ من فهمنا للحداثة والقسطَ الأجملَ من خطابنا عنها، مردودٌ إلى أصلٍ أدونيسيٍّ لا يخفى.
على صعيدٍ شخصيٍّ، أحببتُ أدونيس مذْ قرأتُه أوّلَ مرّة، كمن يحبُّ النقيضَ التامَّ للسائدِ والشائعِ والمكّرر. أحببته شاعراً يصلُ الغربَ بالشرقِ والجذرَ بالتهتّكِ ويحرّضُ الكلمةَ على القاموس، كما أحببتُه كاتباً يعرف كيف يصنعُ من سبيكةِ الشعر مسكوكاتِ فكر.
رافقني أدونيس شعراً ونثراً منذ صباي، لكنْ كانت لحظةُ لقائي بهِ قبلَ ثلاثينَ سنة تقريباً فارقةً في مسيرتي. وحين قرأ لي شعري أحسستُ أن وديعةً ما تخصُّه هو شخصياً قد سلمتُها إليه.
في هذا العدد حوار لـ “الصباح” مع أدونيس أجراه الشاعر محمد العتابي. وفي الحوار لم يزلْ أدونيسُ الذي يسيرُ إلى سنواته المئة متوقداً حادَّ البصيرةِ، ولم يزلْ صاحبَ فأسٍ.