اللغة في الأدب الشعبي بين العاميَّة والفصحى
صفاء ذياب
ما زال بعض النقّاد العرب يسمّون أيَّ أدب كُتب أو قيل باللغة العامية أدباً شعبياً- ونقصد هنا النصوص الشعبية كالسير والحكايات والأمثال وغيرها بعيداً عن (الشعر الشعبي) المعروف عراقياً أو عربياً-، وفي الوقت نفسه يرون أنَّ الأدب الشعبي هو بالضرورة مكتوب باللغة العامية، غير أنَّ هذا موضع خلاف حتَّى بين دارسي الأدب الشعبي أنفسهم، وهو ما يؤكّده أحد روّاد الأدب الشعبي أحمد رشدي صالح، ففي كتابه الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1954 بعنوان (الأدب الشعبي) يقدّم ثلاثة تحديدات حول هذا الموضوع،
الأول: “ما يزال تحديد الأدب الشعبي أمراً يختلف عليه النقّاد ودارسو الأدب، بيد أنَّنا نجد تحديدات ثلاثة تهمّنا: فنقاد الأدب المتأثّرون بآراء الفولكلوريين من أمثال بول سبيو يرون أنَّ الأدب الشعبي لأيِّ أمة هو أدب عاميتها التقليدي، الشفاهي، مجهول المؤلّف، المتوارث جيلاً بعد جيل ومؤدّى هذا الرأي إسقاط أدب العامية الحديث الذي أذاعته المطبعة ووسائل النشر الحديثة الأخرى من مسرح وإذاعة وسينما، لأنَّه يتوافر فيه ركنا تجهيل المؤلف والتوارث التقليدي”. في حين يعتمد أصحاب الرأي الثاني “وسيلة أداء التجربة الفنية (اللغة) ميزاناً للحد، وهم في ذلك مثل أصحاب النظرة السابقة، ولكنَّهم يذهبون إلى أوسع ممَّا يذهب إليه السابقون، فيرون أنَّ الأدب الشعبي هو أدب العامية، سواء كان شفاهياً أو مكتوباً أو مطبوعاً. وسواء كان مجهول المؤلف أو معروفه، متوارثاً عن السلف السابق أو أنشأه معاصرون ومعلومون لنا”. هذان الرأيان لا يفرّقان بين الأدب الشعبي بوصفه نتاج تقاليد المجتمع الثقافية، وما يكتب أو ينشر أو يؤدّى باللغة العامية، وعلى الرغم من أنَّ صالحاً يطرح هذين الرأيين، إلاَّ أنَّه لم يولهما أهمّية في طرحه للأدب الشعبي، لهذا يقدّم الرأي الثالث الذي “يعتمد محتوى الأدب لا شكله أي موضوع التجربة الفنية فيه لا اللغة التي يستخدمها أصحابه، فهو عند أصحاب هذا الرأي ذلك الأدب المعبّر عن ذاتية الشعب، المستهدف تقدّمه الحضاري، الراسم لمصالحه يستوي فيه أدب الفصحى وأدب العامية، وأدب الرواية الشفاهية وأدب المطبعة، والأثر المجهول المؤلف، والأثر المعروف المؤلف”، لكنَّ صالحاً؛ مع هذا، يقسّم الأدب الشعبي على أدبين، الأول تقليدي يعتمد على اللغة العامية، والثاني حديث، لا تتوافر فيه أركان مجهولية المؤلف أو الشفاهية أو التوارث أو اللغة. هذان التقسيمان يرجعان بصالح إلى الرأي الأول الذي كان رافضاً له، فحديثه عن الأدب الشعبي الحديث يحيله؛ بالضرورة، إلى كل أدب يُكتب بالعامية اليوم، إن كان أغنية أو حكاية أو عموداً صحفياً أو حديثاً إذاعياً. غير أنَّه في الوقت نفسه يناقش الطروحات الأخرى التي تؤكّد أنَّه ليكون الأدب شعبياً هناك محدّدات يجب أن تتوافر فيه، منها مجهولية المؤلف والتوارث والشفاهية على سبيل المثال.
العامية وبداياتها
يورد أحمد صادق الجمّال في كتاب (الأدب العامي في مصر.. في العصر المملوكي)، أسباباً كثيرة لنشوء اللغة العامية، من أهمها اختلاط المجتمع بعناصر أجنبية تتغلغل ثقافتها في المجتمع، فنصبح أمام لغة جديدة هي اللغة العامية الخاصة، أو “هي (اللغة المشتركة نفسها في مظهر محلّي) وقد اختلف الباحثون في فهم مدلول هذه اللغة العامية الخاصة، هل يطلقون عليها اسم اللغة الشعبية أو اللغة العامية. هذه اللغة لا شكَّ أنَّها العامية التي نشأت نتيجة للظروف الاقتصادية وقد رأى (يوهان فك) أنَّ نشاط التجارة في القرنين الثامن والتاسع الهجري (قد هيَّأت الأسباب الضرورية لنشاط الحياة العقلية وسعت على إنشاء نهضة أدبية في مصر وسوريا تميّزت- من الوجهة اللغوية- بظهور التعبيرات المحلّية) وكذلك هيَّأت الظروف الاجتماعية لنشأة اللغة العامية بما للعوامل الاجتماعية من أثر في توجيه العقول وتغيير السلوك، كما أنَّ السياسة قد أثّرت في نشأة هذه اللغة، فقد سبّبت لها فرصة احتكاكها بلغات أجنبية، ممَّا أدّى إلى تداخلها فيها. وهكذا تنشأ اللغة العامية، وينشأ معها الأدب العامي الذي يعبّر عن أدق خلجات النفس التي تأثّرت بالخبرات، والتي ساعدتها لغة طيّعة هي اللغة العامية لترسم صورة المجتمع الذي تحيا فيه، وهذا ما نراه في اللغة العامية في مصر زمن المماليك الذي جاء أدبها العامي تنفيساً وتصويراً للحياة المصرية الاجتماعية والثقافية والسياسية.
والأدب العامي يعتمد على مادته المفصّحة التي (إعرابها لحن وفصاحتها لكْن وقوّة لفظها وهن) ومن ذلك نلاحظ الأدب العامي يُشترط فيه أن يكون لفظه ملحوناً عاطلاً من الإعراب بعيداً البعد كلّه عن التزام الفصحى التي هي أساس الأدب الرسمي، وإلّا لما وجد الفرق بين الأدبين العامي والفصيح، وذلك في لفظ سهل قريب إلى النفس منبعث من الوجدان الفطري الذي لا يميل إلى التعقيد”.
حدود الشعبي
في مقابل ذلك، تبيّن الدكتورة نبيلة إبراهيم حدود مصطلح (شعبي)- في كتابها سيرة الأميرة ذات الهمة.. دراسة مقارنة- وتميّزه عن غير الشعبي، فمن وجهة نظرها، “معنى شعبيته أنَّه ينتمي إلى الشعب وحده بما له من تراث وتقاليد وعادات. هذا الشعب الذي يتكوّن من أفراد تربط بينهم ربطاً قويّاً صفة الجماعية يستقبل تراثه بما فيه من عادات وتقاليد وأغنيات ورقصات وقصص، فيتسلّمه كتلة واحدة، ويحافظ عليه، ويعمل على إضافة الجديد إليه ممَّا قد يكون له صدى للأحداث المعاصرة. وقد يكون لهذا التراث الشعبي أصله الفردي كما قد يكون له أصله الجماعي منذ البداية، لكنَّ هذا الأصل قد تتعلّق به الجماعات، ونتيجة لذلك يصبح شعبياً، وما يلبث اسم المؤلف الأصلي أن يذوي ويصبح المحرّك الأول لهذا التأليف هو الشعب”. ما يلفت الانتباه في كلام إبراهيم، نقطتان، الأولى أنَّ النص يسمّى شعبياً حين يتسلّمه الشعب كتلة واحدة، ومن ثمَّ يضيف عليه الجديد. النقطة الثانية يتّفق عليها دارسو الأدب الشعبي، وهي أنَّ النص الشعبي نصٌّ قابل للحذف والإضافة في كلِّ زمان ومكان، وهو ما نراه في الحكايات الشعبية التي تروى في أكثر من مكان وثقافة، لكنَّ هناك تغيّرات في النص الواحد تتبع البيئة والثقافة والتقاليد الاجتماعية لكلِّ مكان أو بلد، لكنها لم توضّح كيف أنَّ الشعب يتلقّى النص الشعبي كتلة واحدة.
وتضيف إبراهيم إلى شرحها كيفية تحوّل النص إلى شعبي، أنَّه “منذ اللحظة التي يتسلّم الشعب فيها هذا النتاج يصبح له طابع الشعبية على الرغم من أصله الفردي. وممَّا يضفي على هذا النوع من النتاج مزيداً من صفة الشعبية أنَّ تداوله على مرِّ العصور يتمُّ عن طريق ذاكرة الإنسان والكلمة المنطوقة أكثر من تداوله عن طريق الكلمات المكتوبة. وقد يظهر هذا النتاج الشعبي في صورة أدبية كالقصص، أو يظهر في صيغة لغوية كالأمثال والألغاز أو في صورة عملية كالسحر والتنبُّؤ، أو قد يأخذ شكلاً حركياً كالرقص...”. وهنا تعود إبراهيم مرَّةً أخرى لتوضّح قصدها بأنَّ الشعب يتسلّم النص الشعبي (كتلة واحدة)، معتمدة على الأصل الفردي للنص، حتَّى وإن ضاع اسم مؤلّفه بمرور الزمن، لكنَّها في هذا التوضيح أهملت نصوصاً كثيرة في الأدب الشعبي، مثل قصص الأنبياء التي أعيد إنتاجها من قبل الرواة حتَّى تناقل الشعب النص الشعبي وأهمل النص الأصلي، والأحداث التي مرّت بها جماعات كثيرة صبغت حكاياتها بشكل مختلف وتناقلها الشعب، مثل بني هلال، فهذه الجماعة لم تؤلّف حكايتها، بل تمَّ تداولها قروناً طويلة، ومن ثمَّ أضيفت حكايات جانبية على النص الأصلي من قبل الرواة. ومن ثمَّ إذا كانت هذه النصوص (الحكاية الشعبية، السير الشعبية، الحكم، الأمثال، الأسمار) وصلت للشعب كتلة واحدة، فكيف وصل السحر والتنبُّؤ الذي يأخذ صوراً عدَّة مع كلِّ مرحلة زمنيّة جديدة؟ التبس لدى إبراهيم مفهومان، أحدهما جزء من الآخر، بين الفولكلور الذي يضم الأدب الشعبي جزءاً منه، وبين الأدب الشعبي الذي يمثّل نوعاً من أنواع الفولكلور العديدة.
من جانب آخر، يرسم عبد الحميد يونس حدّاً فاصلاً بين الأدب العامي والأدب الشعبي، في مرحلة متقدّمة من نتاجه النقدي، ففي كتابه (الأدب الشعبي) يشير إلى أنَّ “الأدب العامي تبدعه قرائح معيّنة ويتّسم تبعاً لذلك بطابع الشخصية الفردية، والأدب الشعبي الذي يزول فيه الحاجز بين الإبداع والتلقّي وتضيع فيه شخصية الفرد في شخصية الجماعة أو الشعب، والفيصل في التمييز هو الوجدان الجمعي والوجدان الفردي، ما يصدر عن الأول هو الأدب الشعبي، وما يصدر عن الثاني هو الأدب الرسمي أو الفصيح إلى جانب ما يقرّره الباحثون من مقوّمات تبرز شعبية الأدب كصدوره تلقائياً مع عراقته ومع ما يتضمّنه من عناصر الثقافة، بالمفهوم المتسع لهذا المصطلح”. يخرج يونس في نصّه هذا عن مفهوم الأدب العامي الذي يُكتب باللغة العامية إلى الأدب الذي يكتبه الفرد، فيدمج في هذا بين نوعين من الأدب، الأدب الفردي الذي يُكتب باللغة العامية، والأدب الفردي الذي يُكتب باللغة الفصحى، وفي الوقت نفسه يقسّم الأدب على أدبين: عامي وشعبي، وبذلك يلغي وجود العامية في الأدب الشعبي؛ أو في جزء منه. إلّا أنَّه يضع حدّاً مهمَّاً في الفصل بين الأدب الشعبي والأدب الفردي، وهو الوجدان الجمعي والفردي، مضيفاً لهذا الحد عراقة النص وعناصره الثقافية الخاصة.
في حين ينفي الدكتور فاروق خورشيد أهمية اللغة في تحديد هوية الأدب الشعبي، مؤكّداً أنَّ اللغة ليست مقياساً، فمن وجهة نظره، “لا يهم هنا نوع اللغة المستعملة، هل هي اللغة الفصحى الراقية من حيث التقاليد والألفاظ والأساليب، أم هي اللغة العامية الأقرب إلى محاكاة الواقع في صدقه الخلقي، وصدقه الفني على السواء؛ فاللغة هنا ليست مقياساً؛ لأنَّنا نتحدّث عن أدب شعبي. ومعنى هذا أنَّه يُكتب بلغة الشعب المتداولة، فإن كان الشعب هنا قبيلة منعزلة سادت لغتها، وإن كان الشعب وطناً يتكوّن من عدَّة قبائل سادت اللغة العامة التي تتفاهم بها هذه القبائل في ترابطها كوطن، فإن اتسعت كلمة الشعب لتطلق على عدّة أوطان في تجمّعٍ شعبي يمكن أن يطلق عليه لفظ القومي، سادت أيضاً اللغة العامة التي تتفاهم بها جماهير الشعب في داخل هذا الإطار القومي. وهكذا تصبح اللغة نفسها شاهداً على التفاعل الدرامي بين مكوّنات الشعب الذي ينتج هذا الأدب؛ ذلك أنَّنا سنلاحظ أنَّ هذا الأدب في أغلب الأحيان يخلق لنفسه لغة خاصة به، تتكوّن من لغة المحكيات الضيّقة، ممتزجة بلغة المحلّيات الأكثر رواجاً ورحابة واتساعاً، متفاعلة مع اللغة العامة التي تسود الوطن، أو تسود التجمّع القومي كلّه؛ بحيث تصبح لغة مفهومة من كل أصحاب الرقعة المكانية التي يشغلها الوطن أو التجمّع القومي”. وتأتي أهمية رأي خورشيد هذا في كتاب (أدب السيرة الشعبية)، أنَّه وسّع من محدودية الرقعة الجغرافية ومحلّية لغة الأدب الشعبي، فهذا الأدب غالباً ما يُكتب بلغة مفهومة لدى الجميع، وهذا هو السبب الرئيس في انتشاره خارج البقعة الجغرافية التي نشأ وتمَّ تداوله فيها، حتَّى نجد أنَّ الكثير من الحكايات الشعبية تتشابه لدى مختلف الشعوب، لكنَّ كلَّ شعب من هذه الشعوب يضيف عليها ثقافته الخاصة، وملامح من بيئته التي تروى فيها هذه الحكايات.
وعلى الرغم من الخلط بين الأدب العامي والأدب الشعبي، غير أنَّ دارسي الأدب الشعبي يؤكّدون أنَّ من أهمِّ خصائص هذا الأدب هو صدوره عن الوجدان الجمعي، وهذا الوجدان؛ يعني بالضرورة، مجهولية المؤلّف، فإذا كان الأدب الشعبي معروفَ المؤلّف خرج من كونه شعبياً إلى فرديته، غير معنيين بلغة النص، بل بتداوله وما يطرأ عليه من الحذف والإضافة اللذين يعدّان سمة من سمات الأدب الشعبي مقابل الأدب العامي المدوّن من جهة، والرسمي من جهة أخرى.