أدونيس أنْ تعيشَ شعراً كأنما لا عدوَّ لك
حاوره: محمد العتّابي
كنتُ في حيرةٍ من أمري عندما اتفقنا، (أدونيس) وأنا، على نشر حواراته الكاملة (منذ البدء وحتى اليوم) وثيقةً فكريةً وشِعريةً، وشهادةً على تحولات وتطورات هذه التجربة الفريدة بلاشك، والتي لطالما شغلتْ محبيه وخصومه معاً؛ فأي ختامٍ لهذه الحوارات - في هذا المتن على الأقل - يُمكن أن يكون؟.
لم يكن يسيرًا على شاعرٍ شابٍّ مثلي الحيادُ أو الصمت أمام صخب حياة (أدونيس) مفكراً وشاعراً - في عقده العاشر - لمَّا يزلْ يغتسل بالشَّمس والقصيدة، ماضياً في شوط حياته كما في البدايات: بالشِّعر والحب واللَّحظة الفارقة. (أدونيس) الذي أثّر فيَّ شِعرياً وفكرياً، وأستمتعُ بمحاورته في اللقاءات والاتصالات الهاتفية، المُتقبِّلُ برحابة صدرٍ الاختلاف والنقاش رغم فارق العمر والتجربة.
لذا اقتنصتُ فرصةَ أن تكون خاتمة النهايات في هذا العمل حواراً أجريه معه، وهو ما وافق عليه (أدونيس) بمحبةٍ وكرامةٍ ودونما تردد. لقد حاولتُ في حوارنا هذا المرور على إشكالياتٍ أساسيةٍ وومضاتٍ جَماليةٍ من حياة (أدونيس) شاعراً ومفكراً؛ بصراحةٍ وانفتاحٍ وتكثيف.
• يرى البعضُ أنَّ العودة إلى (التُّراث)، واستدعاء إشاراتٍ من متون النَّفَّري وابن عربي وغيرهما، من صوفيين وشُعراء، لإثبات أصلٍ (قديمٍ) لحداثة النصِّ العربي؛ هي في حدِّ ذاتها أداةٌ سلفية في التَّفكير والتحليل والاستدلال. بمعنى أنَّ الغاية مُسبقة تنطوي على شمولية (إبداع) اللغة العربية، وأنَّ لها قصب السبق في هذا الشَّأن. بينما يرى آخرون أنَّ رحلة العودة تلك، غايتها الاستزادة من (الأصالة) كرافدٍ عابرٍ للزمن. أيُّ المقاربتيْنِ تصحُّ - خاصَّةً أن أدونيس من روَّاد إعادة اكتشاف التراث ولا زمنية الحداثة - أم أنَّ لكم مقاربةً أخرى؟
لا يُسْتَنفدُ الإبداع، ولا يشيخ. وما تشير إليه يُمثّل جانباً من عبثية الجدل في الوسط الثقافي العربيّ: كلٌّ ينطلق من «انتمائه» المسبق - سياسيّاً، وآيديولوجياً، ومذهبياً (أحياناً). لا «قضايا»، بالمعنى الموضوعيّ - بل «مواقف مسبّقة».
لا «سلفيّة» في الإبداع: الإبداع «شمسٌ» اللغةُ: حضورٌ دائم، وخَلّاق، المتنبي، مثلاً، والمعري، مثلاً آخر: حاضران الآن معنا على نحو أعمق من حضورهما سابقاً.
«السلفية» - تعاليم، أوامِرُ ونواهٍ. ماضٍ يُهيمن على الحاضر.
الإبداع - انفتاحٌ متواصِلٌ. بلا حدود: جلجامش، الإلياذة، الشّعر قبل الإسلام: حضورٌ كما لو أنَّ هذا كلّه يكتب اليوم.
• هل للمؤسسة الغربية “البيضاء”، وأذرعها القابضة على المشهد الثقافي العالمي، محاذيرها وخطوطها السياسية الحُمر التي بمجرَّد أنْ يتجاوزها المُبدع يُتجاهل منتَجه الإبداعي والفكري؟ ولأكونَ أكثر مباشرةً: في ما يخصُّ جائزة (نوبل)، هل يدفع أدونيس ثمن موقفه النِّهائي تجاه الكيان الصهيوني؟ خاصَّةً أنَّ تلك الجائزة قد مُنِحتْ قبلًا لمن هم أقلُّ تأثيراً ونتاجاً من أدونيس.
تُثبت التجربة التّاريخية ما قاله الشّاعر البريطاني كيبلنغ: «الغرب غرب والشرق شرق، ولن يلتقيا» - وأُكمل إلَّا بالتبعية: تبعيّة العرب للغرب. العرب المسلمون تابعون للغرب حتَّى في دينهم ـ خصوصاً في كلّ ما يتعلّق بقضايا السياسة والاقتصاد والعلم - حتى في «الثقافة» على المستوى المؤسّسي.
العالم العربي الإسلامي “مستعمرات اقتصادية ثقافية” غربيّة - أميركية، على الأخصّ.
• يلمسُ قارئ أدونيس، في تنظيرهِ ونقده ومقارباته المختلفة، تجربةً غنيةً وانفتاحاً موسوعياً تجاه التراث العربي والمنجز العالمي، وقاموسيةً فريدةً قلَّ نظيرُها، غير أننا في شعر أدونيس نرى اعتماداً على كلماتٍ أسمّيها “مفاتيحَ شعرية”، وهي - أي تلك المفاتيح - وإن كانت سِمةً لبعض الشعراء إلَّا أن لها حضوراً طاغياً عنده، أكثرَ كثافةً وأقل عددًا مقارنةً بالاحتكاك المُعجمي الهائل الذي ذكرته، كلمات من قبيل: “الشمس/ البحر/ الجسد/ الضوء/ النار / الحب”، هل هذه الكلمات المفتاحية، تحديداً، اُستُثمِرتْ لسعةِ تأويلها ورحابة تلقِّيها؟ أم هي رغبةُ أدونيس في استنهاض فكرة الأسطورة والسُّؤال والبحث والشغف والولادة؛ استنهاض الحياة كأصولٍ شِعريةٍ تُحقِّق مَعنى الشِّعر وغاياته؟
كلمات - مفاتيح، «لسعة تأويلها» و«الاستنهاض/الحياة»، كما تعبّر، معاً. عِلماً أنّ الكلمة في الشّعر، لا تأخذ معناها من «المعجم» وإنما تأخذه من سياقها. ومعانيها إذاً تتغيّر، جذرياً، بين شاعرٍ وشاعر. فالشمس، مثلاً، أو الحبّ، مثلاً، آخر - ليس لهما المعنى نفسه عند شاعرين.
وانعدام هذا التمييز في «النقد العربي» سائد، هو في أساس الفساد الذي يُهيمن على نقد الشّعر، والأدب والفكر والثقافة، في الحياة العربيّة.
• الشِّعر نبوءةٌ أخرى . في أكثر من ديوانٍ شِعري لأدونيس كانت النبوءةُ حاضرةً، اصطلاحًا ومعنىً. في كتاب (الحصار) تتجلَّى في خاتمة الكتاب “قصيدة إسماعيل” وذلك بعد تشكيل الحاضر واسترجاع المستقبل في فاتحته “قصيدة الوقت”. نجدها طاغيةً في كتاب (ورَّاقٌ يبيع كتب النجوم) عن مآلات المدن والشعوب. هل الشِّعر بطبيعته الرؤيوية والتَّأملية استكشافٌ للنبوءةِ ومحاولةٌ لاقتحام الغيبِ للهروب من وحشته/ وحشيته؟
أفضل كلمة «حَدْس» أو عبارتي «رؤية» - «رؤيا»، في كلّ ما يتصل بالشعر على كلمة «نبوءة» الَّتي يصعبُ أن تُفْهَم خارج بُعْدِها أو أساسها الدّيني.
«الحدس»، «الرؤية» - «الرّؤيا» ـ لا تنتمي إلى «عالم الغيب» - وإنما تنتمي إلى نوعٍ من الإشراق أو التّجليّ الَّذي ينبثق من الواقع نفسه - كما العِطْر من الوردة.
ولا يتم ذلك إلَّا بلغةٍ تشير إلى «الاختلاف» لا إلى «التشابه» وإلى «الفرادة» لا إلى «الجمع»: ذلك أنَّ «التشابه» و«الجمع» عبارتان تجيئان من أفقٍ “ديني”، أو “آيديولوجي”، لا من أفقٍ شعري - : «وما عَلّمناه الشّعر وما ينبغي له»، يقول الوحي الإلهيُّ عن نبيّه.
وهذه اللغة هي المجاز. فهي وحدها تدلّ على فرادة الشّاعر. شِعرٌ لا يقوم على لغة المجاز، يكون مشتركاً عامّاً، لا فرادة فيه.
رُبّما يتوجّب على المعنيين أن يقوموا بدراسةٍ متعدّدة الأبعاد: نفسيّاً، وسياسيّاً، واجتماعيّاً، وسلطويّاً، للبحث في مسألة منع أو تحريم قراءة النّصّ القرآنيّ، مجازيّاً: لماذا؟ وهل يجوز هذا التحريم، حتَّى من وجهة النظر الدينيّة الخالصة؟.
• هل على الشَّاعر أن يكونَ أكثرَ موسوعيةً من مبدعي ومحترفي الفنون الأُخرى؟ وأنْ يكونَ قارئًا لمختلف صنوف الأدب والفكر والتاريخ والسِّياسة ... إلخ؛ وإنْ لم تحمل قصيدته كل هذه المعارف؟ أم أنَّ القبضَ على اللَّحظة الشِّعرية غيرُ معنيٍّ بكلِّ هذا التَّأسيس والاطِّلاع؟
طبعاً يجب أن يكون الأكثر ثقافةً ومعرفة. الشعراء الكبار في التاريخ كلّه كانوا مفكّرين كباراً - أعني كانوا يقبضون على ثقافة العصر الَّذي يعيشون فيه.
من نماذجنا العربيّة الأولى: المعرّي. وأذكره تمثيلاً، لا حصراً.
• تكاد مجلةُ (شِعر) أنْ تكون واحدةً من أهم المحطات المِفصلية في مسيرة أدونيس، ولعلَّها المرتكز الذي لا يُمكن تجاوزه حينما يُحاور. الآنَ، وبعد أكثر من نصف قرنٍ، وبنظرةٍ متأمِّلة وهادئةٍ، وربما أقل رومانسيةً: ما الذي غيَّرته مجلة (شِعر) في الشِّعرية العربية الحديثة؟ أسألُ عن التَّغيير لأنَّ هذه المجلَّة في روحِها وتشكيلِها وديناميكيتِها طرحتْ نفسها مشروعاً ثورياً على السَّائد والنَّمطيِّ؟ وهل ما كتبه أدونيس وأنسي والماغوط والخال وغيرهم كان منسجمًا مع (الشِّعر) كما بشَّرتْ به (شِعر)؟
غَيَّرت مجلّة «شعر»، أو على الأقلّ أسّست لأفقٍ - فَنّي - ثقافيّ من أجل تغيير النّظر، جذريّاً، إلى القضايا والمفهومات الأساسية التّالية:
ـ تغيير المعنى الَّذي كان سائداً في كلّ ما يتعلّق بالشعر.
أ. لم يعد «الكلام الموزون المقفّى.»
ب. لم يعد «الوزن» خصيصته الَّتي لا بُدّ منها لكي يُسمّى شعراً.
ج. لم تعد موسيقى الشّعر قائمةً على «أوزانٍ مسبّقة»، خارجية، وإنما أصبحت الموسيقى داخلية: قائمةً على العلاقة، بين الكلمة والكلمة.
د. صارت العلاقة بما نسمّيه «التراث» نقديّة، وفي معزلٍ كاملٍ عن الدّين. ليس التّراث هو الَّذي «يخلق الشّاعر» بل الشّاعر هو الَّذي «يخلق» تراثه. ولكلٍّ تراثه.
هـ. صارت العلاقة مع الآخر المختلف مجرّد انفتاحٍ على ما يبدعه لمعرفته، ولم تعد العلاقة تبعيّة - نقليّة.
و. صار معيار الشعرية العربيّة قائماً في اللغة العربيّة ذاتها، وليس مستعاراً من شعر الآخر الأجنبي، أيّاً كان.
ز. صار الشّعر مشروعاً في كيفية إعطاء صورة جديدة عن الإنسان العربي، والحياة العربيّة، والنظرة الشعرية العربيّة للحياة والإنسان والعالم.
لم يعد، بصيغة أخرى، مجرّد غناءٍ، أو تعبير عن المشاعر - فرحاً أو حزناً، ولم يعد جواباً وإنما أصبح سؤالاً، ولم يعد إعادة إنتاج لما سبق من الكتابات، أو للواقع، وإنما صار اختراقاً، وتساؤلاً، استقصاءً وكَشْفاً.
وبدلاً من أن يكون أو يظلّ مشروعَ وَصْفٍ، وتمجيد، صار مشروع نَقْدٍ وتساؤلٍ وتغيير واستشرافٍ من أجل بناء حياةٍ جديدة، وثقافة جديدة، وإنسانٍ جديد.
• يُعاني الشِّعرُ اليومَ، عربيًّا، ضمن نسقٍ تقهقريٍّ يشملُ كلَّ شيءٍ تقريبًا في العقود الأخيرة، إلَّا أنَّ هذا النكوص يتعاظم في حالتي الشِّعر والمسرح، وباتا الأكثر غربةً بين أشكال الإبداع الأدبي الأخرى. يعزو البعض ذلك إلى نوعية الشِّعر الذي تُكرِّسه المؤسسات الرسمية والتَّعليمية بل وحتى الدينية، إضافةً إلى تحرُّر الشِّعر وتخفُّفه من أعباءٍ غير شعريةٍ حملها شكله وأثقلتْ كاهله لخمسة عشرَ قرنًا، غير أن طاقةَ الانعتاق هذه لم تُستوعَبْ جماهيرياً كما أنَّها فتحت الباب لمستسهلي الكتابة. انطلاقًا من راهنيته المتعثِّرة، كيف يستشرفُ أدونيس مستقبل الشعر العربي، والجيل الجديد من شُعراء العربية؟ هل من سماءٍ كي لا يسقطَ الطَّائر؟
ما تقوله صحيح، ويا للأسف.
لكن ما دام الحب والموت موجودين، فسوف يظل الشّعر موجوداً، أو ضرورةً كينونيّةً: إذا انتهى الشّعر فمعنى ذلك أنَّ الإنسان نفسه انتهى.
لا أخاف على الشّعر، وإنما أخاف على الإنسان.
• أدونيس في عقده العاشر، بعد كل تلكَ القصائد والسجون والخيبات والقراءة والحب، والأوطان الموزَّعة بين الوجوه، والخرائط في حقائبَ على سفرٍ دائمٍ، والحنين والصِّراعات والالتياع، والمجازات التي تستعيرُ غربةَ اللَّيل واللُّغةَ والمدن البعيدة: كيف يرى أدونيس هذه الحياة؟ ما الذي يهمُّ حقًّا؟ وإلى أين تأخذنا القصيدةُ والغياب؟
أُعطيَ الإنسان الحياة مرّةً واحدةً وإلى الأبد.
لذلك عليه أن يعيشها بعلوٍ ومحبّةٍ، بصدقٍ وهُيامٍ. أن يعيشها شعراً، وحباً، وصداقة.
عِشْ كأنما لا عدوّ لك - حتَّى لو كنتَ مُطوّقاً بالأعداء: هذه بطولتك الأوليّة. والبداهة الأولى الَّتي يجب أن تقود حياتك.
وعش عاشقاً شاعراً،
عِشْ ألقاً، وابتكرْ
قصيدةً وامضِ
زِدْ سعة الأرْضِ.
أدونيس
محمد العتابي: شاعر وناشر عراقي، أجري الحوار
في 11 كانون الأول، 2023