جودت جالي
إنَّ ظهور القطار منذ ما يقرب من قرنين لم يكن حدثاً مؤثراً في الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي فقط بل ومؤثراً في الجانب الاجتماعي العام والفردي أيضاً، من الناحية الإنسانية الوجودية، وخلق ثقافة متفردة، وهذا الحضور الثقافي بانعكاساته الفنية والأدبية أنتج لنا الكثير الكثير من الروائع، ولا شك في أنَّ هذا الأثر محسوس على مستويات معينة في ثقافتنا العراقية ويمكن للمتتبع أن يرصده في القصص والأمثال وقصائد فصحى وشعبية لعل من أجملها القصائد المغناة ومنها (الريل وحمد) لمظفر النواب، ولقد تسنى لنا بفضل الإنترنيت أن نطلع لعراقيين على صور وانطباعات وذكريات أيضاً، وتوجد أمثلة كثيرة ولكن ذكرها ليس ضمن اهتمامنا المكرس هنا للحيز الأجنبي مع إشارة إلى إصدارات بشكل موجز.
في بعض الدراسات تُذكر الأهمية الدلالية للسكك الحديد فالمحطة مثلا “هي إطار زماني/ مكاني مهم للقرن العشرين”.... حيث التطورات الاقتصادية والمواجهات العسكرية خلقت للقاطرة (التي تسحب العربات) والقطار ككل متناً واسعاً داخل النصوص الأدبية والصحافية. إنَّ دراسة الخطاب السككي في المشهد الروسي تكشف عن معان تاريخية وسيميائية، وقد اتخذت النماذج الدلالية لمفهوم القطار حيزاً ثقافياً، في الثقافة الروسية، حيث القطار شخصية مزدوجة، هو رمز فخم للبناء وحركة الحياة الدائرية، ذهاب وعودة إلى نقطة البداية، وهو “قطار ثعبان/ تنين” قادر على تحطيم كل الكائنات الحية وأخذها إلى مملكة الموت (1)، وقد انعكس هذا في أجمل النصوص الروسية ومنها خاتمة (آنا كارنينا) لتولستوي التي استوحاها من حادثة انتحار حقيقية في محطة قطار صغيرة وكان هو حاضراً في المحطة فحص جثة الفتاة المنتحرة التي بقي وجهها سليماً بأعجوبة وعيناها المفتوحتان تحتفظان بنظرتها الأخيرة نحو القطار القادم نحوها وقد تأمل تولستوي هذا الوجه وهذه النظرة طويلاً، وبعدها بفترة أزاح جانباً رواية كان يكتبها وشرع بكتابة (آنا كارنينا) استمرت أربع سنوات. يمكننا أيضاً تبيّن الأثر الثقافي لسكك القرن العشرين الروسية في أعمال منها رواية جنكيز آيتماتوف (اليوم يدوم أكثر من مئة عام) سواء في البيئة أو في العمل الفني.
تم افتتاح أول خط سكك في الهند سنة 1853 بطول 34 ميلاً وخلال السنوات العشر التالية امتدت شبكة من خطوط السكك عبر شبه الجزيرة العظيمة لتقطع سهولها ووديانها منجزة تواصلاً بين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً لعشرات القوميات واللغات كان مستحيلاً في السابق تخيل تحققه، وقد أثار هذا العالم الذي يأخذ القطارُ الناسَ إليه بتنوعه الوجودي المثير قريحةَ أدباء من جميع أنحاء العالم يمكننا أن نعد منهم رديارد كبلنغ، ومارك توين الذي كتب في (متجول في الخارج) عن “العرض الفاتن لمحطات السكك الهندية..” التي يبلغ عددها حالياً 7 آلاف محطة!! وكل محطة منها لها جوها الفريد. لقد فتنت الحياة المتنوعة للمحطة وضواحيها كُتّاباً مثل جول فيرن في سبعينيات القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين كوشوانت سنغ وساتياجيت راي (وهو أيضاً المخرج المعروف)، وآخرين. الجدير بالذكر، لإعطاء فكرة عن الدور الثقافي الذي كانت تلعبه السكك في الهند، نذكر فقط أنه قبل مئة عام كان يوجد باعة كتب في القطار والمحطات وكان منهم عدد من رواد الطباعة (2).
يقول الصحافي الفرنسي بنجامين غاستينو في (الحياة سكة قطار) 1861 يصف الحياة كما يعرضها هذا الكائن الحديدي العملاق وهو في بداية وجوده :” الماكنة البخارية (القاطرة)، وهي تلتهم المسافة بمعدل 15 فرسخاً في الساعة، تلك المدبرة لتسلسل المشاهد أمامنا... تغير وجهة نظرنا كل لحظة، وبتتابع سريع تعرض للمسافر المندهش مناظر تسعدنا، ومناظر تحزننا، ومنوعات تفاجئنا، وناريات رائعة.... كل الرؤى التي تختفي حالما نراها” (3) وجاء بعده بأكثر من قرن ولفغانغ شيفلبوش ليصفها ﺑـ “السفر البانورامي” (1982).
هكذا جلب القطار إلى الوجود شكلاً ثقافياً جديداً مما أسموه الملاحظة البانورامية أو الإدراك البانورامي عبر بمرور الزمن من الأفق الوطني إلى الأفق العالمي برؤية أبعد وأكثر تعقيداً من مجرد العلاقة البصرية مع السرعة. أصبحنا نقرأ اليوم تاريخاً استراتيجياً للقطار، ونرى كتباً ومجلات متخصصة ليس بالجانب التقني فحسب بل أيضاً بتاريخ القطار وأحداثه، وحوادثه، التي تعد وقائع ذات أهمية لا يمكن أن ترقى إليها وسيلة نقل برية أخرى، ونقرأ قصصاً وأشعاراً ضمن أدب يكون القطار مسرحه، وهو مسرح يتسع لشخصيات وصراعات لا يمكن لوسيلة نقل أخرى كالسيارة مثلاً احتواءها بل تكون هي، السيارة، في أحسن الأحوال جزءاً من قصة طريق أو أداة فيها، لا بل نرى أنَّ القصص التي يؤلفها كتابها مرتبطة بالقطار، مسرحاً أو خلفية، وإن كانت تنسب للأنواع والأجناس المألوفة مثل قصة حب أو رعب أو بوليسية فإنها بارتباطها بالقطار تشكل نوعاً قائماً بذاته وإلًا كيف نصنف قصة رائعة كقصة توماس وولف (البعيد والقريب)؟ ما دور القطار هنا؟ ولا نريد الاستفاضة في ذكر النماذج.
كما تراكم للقطار بمرور الأجيال تراث شعبي حتى صرنا نقرأ مؤلفات في ميدان ثقافي لا يرى مؤلفوها مانعاً من تسميته (فولكلور السكك). يقول ب. أ. بوتكين في مقدمته لكتابه المشترك (كنز لفولكلور السكك) إنَّ تأثير السكك الحديد في المخيلة الأميركية أعظم من تأثير أية صناعة أخرى، ومن ناحية أخرى فإنَّ علاقة العاملين الشخصية بالمكائن التي نسميها نحن قاطرات يجري تصويرها بحميمية ﻓــ “يشيرون إليها (القاطرات) بضمير المؤنث “هي”. إنَّ القاطرة من المخلوقات الجميلة، ذات نزوة من حديد، للرجل أن يتحكم بها أو أن تتحكم به، ورومانس-ها لا يمكن عزله عن حقيقتها”. وبعيداً عن هذه الصورة الرومانسية الجميلة التي لا تعبر في الحقيقة إلا عن اعتداد العامل بنفسه وافتخاره بإنجازه المهني فإنَّ التراث الشعبي الذي ضم الكتاب ما تيسر مما تراكم منه خلال ما يقرب من قرنين من أحداث وحكايات وأمثال وأعمال بطولية مقتبسة من كتابات مطبوعة أو مخطوطة أو شهادات (5).
الكتاب الفرنسي (قاموس عاشق للسكك الحديد) لجان دي كار يتخذ المنهج نفسه إلا أنه أكثر تنوعاً بمادته ومصادره من أنحاء العالم كله وليس من فرنسا فقط ووجدته أكثر إمتاعاً ويتميز بتقسيم مواده على التسلسل الأبجدي ومن هنا جاء وصفه قاموساً(6).
___
1) Train as a Semantic Space in Russian culture of the 19th-20th centuries. March 2021. Rupkatha journal.
2) Benguin book of indian railway stories,Edited by Ruskin Bond.
3) Benjamin Gastineau, La Vie en chemin de fer
4) Wolfgang Schivelbusch, The Railway Journey
5) A Treasury of Railroad Folklore
6) Dictionnaire amoureux des trains