صورة الوجود الناقصة ورؤية الذات في مرآة
د. ضياء خضير
في قصيدة له بعنوان ( الصورة الناقصة) من مجموعته (أزهار في بئر ) يكتب ( زاهر الغافري) ما يلي:
“ إلى أين ستمضي هذه الليله والرغبة تدعوك
من الأقاصي البعيدة، تحلم أن تظل
البراري وفية للسر، لعين ظامئة تريد
أن ترى المشهد كاملاً
هنا “ الوردة الأخيرة “ وهناك طرق أوروبيا
التي أغوتك مبكراً
الصورة أسلوب حياة تذكر هذا “.
(الصورة الناقصة) في عنوان هذا النص تصلح أن تكون عنواناً لحياة ( زاهر الغافري) وشعره الذي يعكس، كما المرآة، جوانب وأجزاء هذه الحياة.
وهو يذكر في هذا النص نفسه كلمتين أخريين لهما علاقة بهذه الصورة الناقصة، ويمكن أن تؤلف أي واحدة منهما ما يشبه كلمة السر ( المفتاح) أو ( البؤرة ) التي نستعين بها في قراءة ما هو مخفي أو مسكوت عنه في هذه الصورة ، وكذلك ما هو أساسي في هذا المشهد الشعري الذي وضعه الغافري منذ بدايته الأولى وما زال يكرّره بأشكال مختلفة.
هاتان الكلمتان تتحددان في كون ( عين ) الشاعر (ظامئة) تريد أن ترى المشهد كاملاً، وأن “الصورة أسلوب حياة “.
وبين الحياة وأسلوبها الموجود في الصورة ، وليس في مكان آخر ،وبين هذه العين الظامئة يمكننا أن نتبين القسمات الرئيسية في تجربة الغافري الشعرية على الرغم من اتساعها وترامي مناحي القول فيها .
يقول الغافري في هذه القصيدة نفسها:
“ كانت الحياة تلمع على الشاشة
مثل جرح الولادة ، لكن الشاشة الآن
اتسعت والأبطال تفرقوا أو ناموا
تحت ضلال الشجرة “.
ولابد أن تكون الشاشة أو المرآة متسعة هكذا، ليس فقط لأن الأبطال تفرقوا أو ناموا (=ماتوا!) تحت ضلال الشجرة، وإنما لأن هذه الشاشة كانت متسعة أصلاً منذ اللحظة التي تفتحت فيها عين الوعي وصارت قادرة على قياس المشهد، وتقدير مدى اتساعه، شاعرة بالظمأ لأنها تجد نفسها عاجزة في كل مرة عن رؤيته كاملاً.
ولئن بدت الشاشة أقل اتساعاً في زمن سابق حيث الجرح- جرح الولادة كان يزحم المشهد ويشوّه الصورة ويفقد المرآة صفاءها وشفافيتها، وحيث ضيق الأفق في سماء الشاعر الأولى يسد المنافذ ويمنع الرؤية أمام روح الشاعر المشرئبة إلى مزيد من الضوء، فإن اتساع الشاشة في زمن تال يكاد يكون مساوياً لضيقها القديم مادامت العين ظامئة ، والصورة ناقصة مهما اتسعت المرآة وتعدّدت زوايا الرؤية فيها. والعبارة تضيق حين تتسع الرؤيا، ولا يكون غريباً أن تظل أزهار الشاعر وكلماته في أعماق بئر لا تكاد ترى على صفحة مياهه الضيقة غير ظلال وأشباح تؤلف جوهر التجربة واللالئ الثمينة التي قضى الشاعر حياته في البحث عنها. وكون هذه اللالئ أو الأزهار في بئر ذو دلالة خاصة في مجمل تجربة الغافري الشعرية. فهي لا تؤلف مجرد مفارقة بلاغية وطباقاً يتقابل فيه وجود الأزهار في مكانها الطبيعي وسط الهواء والضوء والبراري الواسعة مع وجودها في هذا البئر، فالشاعر يذكر أن هذه البراري قد لا تكون وفيّة للسر مع حلمها بذلك.
وهو سر غامض ليس لدينا أيّ تأويل لوجوده هنا وسط هذه البراري غير خوف الشاعر الدائم من افتقاد الشفافية ومحاولته المستمرة نزع كثافة الوجود وثقله. وهي واحدة من الأفكار الرئيسية التي لازمت ( الغافري) في حياته وشعره.
وهو يقول بهذا الصدد ما يلي :
“ واحدة من تلك الأفكار التي أفضلها لمقاربة العالم ، هي فكرة الشفافية . .شخصيّاً أجد المتعة والهوى في نزع كثافة الوجود وثقله، أي التخلص من اشتراطات الحياة القابضة للروح والجسد معاً . التخلص أيضاً من رتابة القيود التي تجعلني مثل آلة ببراغ كثيرة ، مثبتة على الأرض. إن نزع القشرة الخارجة الثقيلة والصلبة أشبه في ارتماء في بحيرة صافية في صيف ممطر. غالباً ما ترهق الحواس، غالباً ما تثقل الأجفان، وعندما يحل ليل التكنولوجيا سرعان ما يتم طرد فجر الكائن الشفيف “.
( شرفات،ملحق جريدة عمان ، ع81 ،16 -6-2004م)
وواضح أن هذه ( الشفافية) التي تشبة بحيرة صافية زرقاء في صيف ممطر، هي غير تلك الأزهار الموجودة في بئر. فما يحلم به الشاعر ويبحث عنه في الخيال ، غير ما يعيشه ويعاني من ثقله في الواقع . وهذا هو الذي يفسر لنا ، ربما ، لماذا جعل الشاعر الصورة أسلوب حياة ومنهجا في الكتابة الشعرية . فما دام الواقع ضيّقاً وثقيلاً ومشوهاً إلى هذا الحد ، فلابد من البحث عن البديل الجاهز في هذه الصورة . وهي إبداع خالص للروح والقلب، النقص فيها لا يأتي من أنها لا تعكس المشهد بكامله ، فكثافة الوجود وثقله يجعلان المرآة التي يحملها الشاعر في كفه حيثما رحل ، عاجزة عن الدخول في أعماقه ، بله عن عكس صورته الداخلية كما تفعل الأشعة السينية . ولذلك يجد الشاعر نفسه مضطراً للجوء إلى مصادر أخرى تختلف عن المصادر الواقعية المباشرة وتضاف إليها. أنه يلجأ، بين أشياء اخرى، إلى المرآة نفسها وإلى الحلم والطفولة واللوحة المرسومة والحكاية الخيالية والموسيقى والشاشة السينمائية وإلى الأسطورة التي تشبه
“ رأس ميدوزا الذي بنظرة واحدة منه يتحول الكائن البشري إلى حجر ثابت وثقيل. لكن بيرسيوس كان من الذكاء بحيث استعان بأكثر الأشياء خفة للتغلب على النظرة القاتلة ليقطع هذه الرأس من أساسها، كما جاء في الأسطورة الإغريقية الشهيرة . لقد استعان بيرسيوس بالرياح والغيوم بعد أن ثبت نظره على الصورة المنعكسة في المرآة “.
( وزاهر الغافري ) يستخلص من هذه الأسطورة التي اقتطعنا الحديث عنها من مقالته المشار اليها أعلاه نتيجة مهمة ، وهي أن :
( هذه الشفافية ،وهذه الرهافة، وتلك الأثيرية، هي مفردات أظن أنها تحيل إلى حقل دلالي يصبّ في معنى الخفّة ).
وهو (حقل دلالي) يصبّ أيضاً في مسألة علاقة المعنى بصورة الحقيقة الإنسانية، وصورة الكينونة، والكيفية التي يصبح فيها التمثيل والإشارة والصورة الموجودة داخل المرآة أشياء موازية للواقع، وأحياناً أهمّ من هذا الواقع والعلامة أو العلامات التي تمثّله .
وما يحمله كل ذلك من تناقضات ومفارقات لفظية أو دلالية يصبح مفهوماً أيضاً لأنها تصير في أحوال من هذا النوع المبدأ الناظم للوجود والإبداع الإنساني في الكتابة الشعريّة.
أما ما يقوله الشاعر في الفقرة المتقدمة عن ليل التكنولوجيا الذي سرعان ما يتم طرد فجر الكائن الشفيف عند حلوله، فإن له علاقة ولو بعيدة بالصورة والشفافية التي يتحدّث عنها الشاعر.
والفيلسوف الألماني هيدغر كان يلح على اختفاء معنى الوجود في عصر التقنية الحديثة وتحول العالم إلى (صور) لا تعكس سوى قطّاعات موضوعية محدودة من الواقع الموجود .
لقد طوّف (زاهر الغافري) طويلاً في الآفاق شأن اكثر أقرانه من شعراء قصيدة النثر العمانيين ولكن رحلته طالت أكثر مما يجب منذ تلك اللحظة التي أغوته فيها( اوربيا) بعطرها ورشاقة قوامها وثقافتها وموسيقاها، فاستمرأ الغربة واستوطن فيها وإن ظلّ مثل المتنبّي (على قلق كان الريح تحته) شاعراً أن الأمر لا يعدو أن يكون نزهة في مرآة قصيدة أو كلمه عابرة وإشارة ملغزة لا يكاد القارئ يمسك بطرف من غطائها الشفيف حتى ينزلق من يده الطرف الآخر ويتلاشى خلف “ضباب العالم”:
“ كنت أعدو كما لو كنتت أسابق الأبدية
أسمع جريان أفكاري وهي آتية
من دهليز بعيد.
( بريق مستعاد من قلب الآلام – أزهار في بئر ص83 )
“ كل هذا الليل بلا عاصفة واحدة
تجعلني أحلم .
بلا نافذة لكي أكون أعمى
ليل بلا غصن يودع خطواته
فأكاد أسمع صرختي الأولى
في غيابي “.
( أي الليل – أزهار في بئر ص 88)
“ بعد غياب طويل
تعود إلى أرضك الأولى
وكل ما تملك جمرة في اليد.
أحقاً ستختفي المعرفة
ذات يوم
ولن تتذكر الأفق
وأرواحه الهاربة “.
( بعد غياب – أزهار في بئر ص 83 )
“ لم يكن الظل خلف العتبة
ولا الرغبة فوق أعشاب الظلام
كان الليل مرآتك ، ندم ماضيك
المغفور بالحرية
أتيت إليك بنور اليدين
وخلاء الكلام
اتيت لأصغي إلى ذهب السهرة
وأسرار الحديقة ، كما لو كنت
نائماً والغبار كله يرتفع من أحلامي “.
( نزهة في مرآة – أزهار في بئر ص91)
ولا يبدو نثر ( زاهر الغافري ) الشعري في هذه النماذج وفي سواها نثراً متصلاً مترابطاً، على الرغم من النغمة السردية للخطاب وحس الحكاية الذي يسود في بعض أجزائه . فهو نتاج مخيلة متحركة متوثبة لا تكاد تفرغ من صناعة صورة من الصور حتى تغادرها إلى أخرى أكثر إدهاشاً وأسراً.
غير أن ما يبدو على بعض السطور والجمل من أنها تعيش عزلة كلامية واستقلالاً ذاتياً لا يحدث غالباً إلا على المستوى الإسنادي أو التركيبي حيث الجملة بسيطة لا تعقيد ولا معاظلة فيها، سواء أكانت اسمية أم فعلية. أما على المستوى الدلالي أو ما يسمى بالبنية العميقة، فهذا التعقيد موجود، وهو الذي يؤلف شعرية النص وبطانته الداخلية المشعّة. وهو لا يأتي فقط من المنحى الميتافيزيقي للقصيدة، ولا من هذا الجمع المدهش بين المادي والمجرّد في كلماتها، وإنما أيضاً من هذا التضامن الذي يجعل مجموعة الصور الشعرية تتحرك ضمن نسق دلالي واحد رغم تباينها وتباعدها الظاهر .
فالجملة الشعرية التي تبتعد عن الجملة الشعرية الأخرى وتفارقها تخلق في ذاكرة القصيدة والقارئ الذي يطالعها نمطا إيقاعياً موحّداً يقوم على أساس البحث عن تلك الخفّة والشفّافية المشتهاة ، ويحاول التغلب على الثقل المادي واشتراطات الحياة “ القابضة للروح والجسد” بنوع من الكلمات المحلقة مثل طائرات ورقية ملونه تهاجم قلاعاً صخرية محصّنه بقنابل من الصور الشعرية وفيض من المشاعر والأحاسيس الكلامية المرهفة.
وهو ما يخلق إيقاع الصورة إلى جانب إيقاع المعنى والدلالة الحافّة ، وغير ذلك من وسائل وضرورات جعلت ( زاهر الغافري) من صنّاع قصيدة النثر الصافية وأساتذتها العمانيين الماهرين .
وكلمات مثل ( أعشاب الظلام ) و (ندم الماضي) و(نور اليدين ) و (خلاء الكلام ) و(ذهب السهرة ) و(أسرار الحديقة ) الموجودة في النص الأخير المسمّى ( نزهة في مراة) هي مجرد نتوءات وعلامات معلّقة في طيات الكلام ومضاعفات التعبير. إذ على الرغم من أن النص الشعري لا يمكن أن يواصل جريانه بدونها، فإن المعنى والدلالة الحافة لا تفقد ثقلها وإيحاءاتها المرافقة حتى دون هذه المحسنات والوسائل البلاغية المؤنسة .
والنص الأخير (نزهة في مرآة) مثلاً لا يستطيع أن يخفي على القارئ الحصيف إيحاءات رغبة جنسية مموّهة خلف (ظل العتبة ) و(أعشاب الظلام ) و ( أسرار حديقة ) جسد تلك المرأة التي يوجه إليها الخطاب. فالصورة الطافية على السطح لا تمنع من رؤية ما يمور في أعماقه من دلالات ومعان معلنة أو مسكوت عنها.
وحين نقرأ في النص الآخر المسمى ( أي ليل ) أنّ ( العاصفة ) في ذلك الليل تجعل الشاعر يحلم وأنّ النافذة تفقده البصر وتجعله أعمى ، نشعر أن المفارقات الضدية هي التي تحكم القصيدة وتهبها القدرة على الوجود والفعل . فتساوي الأضداد وعدم ارتباط مقدمة الجملة الشعرية بنتيجتها ارتباطاً سببياً أو منطقياً يحقق جانباً مهماً من شعرية النص .
فالعاصفة وليس الهدوء هي ما يجعل الشاعر يحلم، والنافذة وليس الجدار المغلق هو ما يجعله أعمى . الأمر الذي يجعل الشفافية و(الخفة) العزيزة على الروح والقلب مستحيلة أو صعبة المنال، مع أنّ الشاعر يبقى غير قادر على مواصلة الحياة بدون تلك النافذة وتلك العاصفة. فالنافذة هي عينه الأخرى المطلّة على الوجود، والعاصفة هي حلمه المجسّد والمرئي.
غير أن بقاء الصورة التي يجعل منها الشاعر (أسلوب حياة) مقلوبة أو واقفة على رأسها هكذا ، من شأنه أن يحّفز على البحث عن البديل الموجود في الصورة الأخرى المقابلة ، فضلاً عما ينال العبارة في ذلك الوضع من توتر وقلق يجعلان ( النزهة في المرآة) محفوفة بالمخاطر حتى إذا كانت مخاطر باعثة على الأمل .. الأمل في حياة أخرى وصورة أخرى غير ناقصة يستطيع الشاعر أن يرى المشهد فيها كاملاً، والأزهار وسط شفافية الهواء وضوء الشمس الطبيعي، وليس في أعماق بئر.
والقراءة المتكررة لأشعار زاهر الغافري تجبرنا على الإحساس بوعي اللحظة الحاضرة من زماننا والشعور بالنشوة لما يمرّ الآن؛ وهو لا يني يذكّرنا بالحركة المتقدّمة للزمن والقطيعة مع التقاليد البالية في الفن والموقف العام من الحياة. وكل نص جديد من نصوصه يبدو كما لو كان محاولة للقبض على شيء خالد وغير موجود إلاّ خارج هذه اللحظة. وهو ما يجعل المحاولة مستمرّة وممتدة وقابلة للتكرار إلى ما لانهاية ، مهما كان لون الشكل الذي تلجأ إليه والموضوع الذي تتحدّث عنه.