الروايةُ الفلسفيَّة.. متعةٌ ومعرفةٌ معاً
باقر صاحب
هناك من يقول إنه ليس من الضروري أن ندرس الحجج المعقّدة لكي نكون مستنيرين بالفلسفة القيّمة، إذ يعتقد البعض أنَّ قراءة رواية بدلاً من ذلك أمرٌ أكثر إمتاعاً وفائدةً معرفية. من هذا المنطلق، نخوضُ في أهمية الدرس الفلسفي في الرواية العالمية والعربية، وهو درسٌ مرتكزٌ على قدرة رواياتٍ بعينها على إضاءة العديد من جوانب حياتنا والمجتمعات التي نعيش فيها، وتدفعنا لفهم أنفسنا من خلال توافر عاملي الإقناع والمتعة فيها.
الروائي الليبي إبراهيم الكوني يرى أنَّ الفلسفة ضروريّةٌ في الرواية لأن تكتسب هويَّة رواية” كم ستكون الرواية ترفاً خاوياً في حال تمرّدت على سلطة سلطانٍ اسمه الفلسفة؟ فالتجربة برهنت منذ ما قبل التاريخ أنَّ الرواية لا تستطيع أن تتباهى بهويّة الرواية حقّاً، ما لم تكن ناطقاً مفوّضاً، بل ومفوّهاً، باسم الفلسفة”. إذ يرى الكوني أنَّ الأعمال الملحمية القديمة كانت حاملة لرؤى فلسفية، ذاكراً في هذا السياق، ملحمة كلكامش، والإلياذة، والأوديسة، والإنياذة.
عالمياً، هناك حضورٌ واضحٌ للدرس الفلسفي في عديد الروايات الأجنبية، حتى باتت تسمّى “روايات فلسفية”، وتُعرّف بأنّها “رواياتٌ تركّز بشدّة على الموضوعات الفلسفية العميقة، وغالباً ما تكون هذه الكتب عبارةً عن مناقشاتٍ حول حياتنا ومجتمعنا والعالم، من وجهة نظرٍ فلسفية، ومن خلال القصص والشخصيات المثيرة للاهتمام”.
ويجمع دارسون على روايات بعينها ينطبق عليها التعريف أعلاه، ومنها رواية “الغريب” لألبير كامو (1913 - 1960)، حيث تتعرّض إلى سؤالٍ فلسفيٍّ قديم، وهو معنى الحياة، من خلال عبثية تصرّفات بطل الرواية ولامبالاته إزاء وفاة والدته، وانجراره نحو القتل الطائش. فرانز كافكا (1883 - 1924) طرح أيضاً فلسفته الوجودية العبثية في رواية “المسخ” حيث بطلها البائع المتجول الناجح يتحوّل إلى حشرةٍ عملاقة، وبات يعيش عزلةً تامةً ومعاملةً قاسيةً من قبل أسرته، تعكس فداحة شعوره بالاغتراب عن ذاته أولاً والعالم ثانياً. وهناك أيضاً روايته “المحاكمة” حيث يُعتقل بطل الرواية لأسبابٍ لا يعلمها، ويُحاكمُ محاكمةً غريبةً عن تهمٍ لم يرتكبها، والمفارقة الكبيرة هنا شعور البطل بالذنب، وهو لم يرتكب أيّ جريمة، وهذه الرواية تشير مثل سابقتها “المسخ”، إلى ثيمة الاغتراب في العصر الحديث. فأغلب أعمال كافكا قائمةٌ على فكرة التشاؤم، والانسحاب من الحياة ليقع في أحابيل واقعٍ أكثر بؤساً وألماً.
وفي رواية “خفّة الكائن التي لا تُحتمل” لميلان كونديرا (1929 - 2023)، طرحٌ لثيمةٍ مركزية، هي ثنائية الخفّة والثّقل، حيث يتوقف بطل الرواية أمام سؤالٍ ممض، هل يدعو صديقته إلى البيت، فيتورّط بثقل الحب، كعاطفةٍ إنسانيةٍ كبيرة، أم يجعلها تمرُّ كطيفٍ عابر، ومن هنا ينبثق السؤال الأكبر، هل من الأفضل أن نعيش الحياة خفافاً من أيِّ شعور، ومن أيّ معنى، دون أن يربطنا شيءٌ على هذه الأرض، أم ندع أنفسنا تسير بثقل الشعور وجاذبية المعنى؟.
ولجهة الفلاسفة الذين كتبوا روايات ذات طابع فلسفي، يبرز فريدريك نيتشة (1900 - 1844) في روايته “هكذا تكلّم زرادشت”، وهي صياغةٌ بقالبٍ ملحمي لتأمّلات زرادشت، الشخصيّة المُستوحاة من مؤسّس الدّيانة الزّرادشتيّة. هي تأملاتٌ ناطقةٌ لأفكار نيتشة ذاته، وفيها كشفٌ للفضائل الإنسانية، مع تمجيده للقوة، ومنها استُمدّت نظرية الرجل الخارق.
وهناك رواية “الجريمة والعقاب” لديستويفسكي (1821 - 1861)، الذي يعد فيلسوفاً أيضاً، بطلها دارس قانون، يعيش في فقرٍ مدقع، فيقدم على قتل العجوز الغنية، لوجود قناعةٍ قويةٍ لديه بأنّ جريمته مُبرّرةٌ أخلاقياً بحكم التفاوت الطبقي الكبير بينه وبين المَجني عليها. لبُّ الرواية، هذا السؤال الأخلاقي، هو سؤالٌ فلسفيٌّ عن جدليّة الخير والشر في هذا العالم. كذلك رواية ديستويفسكي الأخرى “الأخوة كارامازوف”، وتطرح مناقشات ساخنة بشأن مفاهيم الإيمان والإرادة الحرّة والأخلاق، حيث أبناء كارامازوف الثلاثة، يتبنّون رؤىً متباينةً لتلك المفاهيم، من خلال الصراعات الناشبة بينهم.
تناول الرواية العربية للفلسفة.. رؤى ومشكلات
هنا نريد أن نطرح التناول الروائي العربي للفلسفة، هل هو بحجم أن يكون ظاهرةً في الرواية العربية، أو بحجم شطحاتٍ فلسفيةٍ هنا وهناك؟
يذكر نقّادٌ ودارسون أنَّ هناك عديد القصص والروايات العربية التي جسّدت رؤاها اهتماماتٍ فلسفية، مثل “حي بن يقظان” لابن طفيل، و”الدين والعلم والمال” لفرح انطون، و”عزازيل” ليوسف زيدان، و”عشب الليل” لإبراهيم الكوني، و”أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، و”أوراق: سيرة إدريس الذهنية” لعبدالله العروي.
ومن الملاحظ اختلاف العلاقة، في هذا النوع من الروايات، بين الهمّ الفلسفي والوعاء السردي المحتضن لها، بعضها اقتصر على تشريح أفكارٍ معينةٍ من دون تفاعلٍ جماليٍّ معها. وبعضها احتضن تلاقحاً متيناً بين الأدبي السردي والفكر الفلسفي الناتج مثلاً عن خبرة حياةٍ عريضةٍ وتأمّلاتٍ عميقةٍ في الذات والناس والحياة. ويذهب الروائي العماني محمد العجمي، في إشكالية العلاقة بين الرواية والفلسفة عربياً، إلى ما أسماه الناقد الفلسطيني فيصل دراج “المكر الروائي” ويُعنى به تسريد ما هو محرَّمٌ قوله مباشرةً، بصيغٍ جماليةٍ فريدة. ويقول البعض بأهميتهما معاً، بوصفهما من مظاهر الحداثة في العصر الحديث، فالفلسفة ما تزال الفاتحة لآفاق تفكيرٍ جديدة، والرواية باتت ديوان العالم كما يُقال. وأنّ المزج بينهما سيكون حيوياً في اختراق “جمودٍ ما في شكلٍ من أشكال نشاطنا البشري، باستعمال التخييل والتخليق”.
وهناك من النقّاد، مثل المصري يسري عبد الله، يرى أنَّ الحضور الفلسفي في الرواية العربية أقلُّ ممّا هو في الرواية الغربية، ففي حالة الأولى، يعود ذلك الأمر إلى الذهنية العربية ابنة اليقين والثبات، عكس الثانية، حيث الذهنية الأوروبية “ذهنيةٌ شاكّةٌ ومتسائلة، تعاين الوجود الإنساني من زوايا نسبية، وتتعاطى معه من منظورٍ وجوديٍّ تارةً، وعبثيٍّ تارةً ثانية، وتأمّليٍّ تارةً ثالثة، وهكذا”. ومع ذلك يرشّح يسري عبد الله أعمالاً عربيّةً ذات نزعةٍ فلسفيّةٍ واضحةٍ مثل رواية نجيب محفوظ “السّمّان والخريف” وفيها بطل الرواية عيسى الدباغ المُمزَّق بين واقعه ورغباته، ما يفضي به إلى الاغتراب الذاتي.
وفي السياق ذاته ترى الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي ندرة ما أسمته “الرواية الفكرية” في الأدب العراقي، واصفةً أنَّ “ما يتماس فيه الروائي مع الفكر يبقى متواضعاً، لا يتعدى الممارسات الفكرية التي تتلاقى مع الفلسفة عرضاً في الأغلب وليس قصداً، وسطحاً لا عمقاً”، وبحسب ذخيرتها النقدية ترى أنَّ كتابة الرواية الفكرية تظلّ مقصورةً على المتخصصين بالفلسفة والمشتغلين فيها، وأنّ النتاج الروائي العربي عامّةً يطغى عليه الاتجاهان الواقعي والرمزي.
لكنّنا لا نعدم أعمالاً عراقيةً ذات نزعةٍ فلسفية، على سبيل المثال لا الحصر، رواية “بابا سارتر” لعلي بدر، الراصدة لحياة بغداد ستينيات القرن المضي، بتناقضاتها بين زواريب الفقر ومنازل الأرستقراطيين، حيث شخصيات الرواية تعيش على خلفيّة الأفكار الرائجة آنذاك، الوجودية والشيوعية والقومية، والانقلابات الدموية. علي بدر، يقول إنَّ روايته تستبصر “قدرة الرواية على استنطاق أحد مجالات المعارف الكبرى: التاريخ. كان هذا بحدّ ذاته شيئاً مثيراً للاهتمام. لأنّه من شأنه تسليط الضوء على وظيفةٍ مهمةٍ من وظائف الرواية، وهو قدرتها على تكذيب التاريخ الرسمي”.
وهناك أعمال الأكاديمي والروائي العراقي برهان شاوي، الذي يصرّح في أحد الحوارات بأنّه يكتب الرواية المعرفية. في متاهاته الروائية التسع، يجعل شخصياته تنطق شطحاته الفلسفية، وتتجادل فيما بينها بشأنها، ويقول: “شخصياتي شخصيات قلقة، مهنتها التفكير كما يقول راسكولنيكوف في (الجريمة والعقاب)” .
وفي حين يذكر إبراهيم الكوني أنَّ محنة الرواية العربية في (أيديولوجيتها)، تلك التي باتت “بديلاً للإيمان بدين الفلسفة؟” وأنّ مشكلة الرؤية الفلسفية في الرواية العربية مازالت قائمةً إلى اليوم. يرى الروائي الجزائري سعيد خطيبي، بأنّه نتيجة عثرات الفلسفة في الواقع العربي من رقابةٍ ومنع، بتنا نعرف أنَّ فلسفتنا أدبيّة، منذ ابن رشد إلى اليوم، جاعلةً من النص الأدبي “مختبراً لها، في توصيل الفكرة وقياس مدى تقبّل المتلّقي لها”، وفق ذلك وبحسب خطيبي، تاريخياً، لم يخل النّص الأدبي من جوهره الفلسفي.