صلاح القصب رائداً ومبتكراً لمسرح الصورة
بهاء محمود علوان
أكاديمي وكاتب في النقد الأدبي والمسرحي
يتمتعُ عالمُ الصورة المسرحيَّة، المعروف باسم (مسرح الصورة)، بتاريخٍ غنيٍ يعودُ إلى العصور القديمة، إذ يجمعُ هذا النوع من المسرح بين عناصر الفنون البصريَّة والموسيقى وسرد القصص، لخلق تجربة فريدة وغامرة ومميزة تعتمدُ على المشاهدة البصريَّة أكثر من النصوص السرديَّة لتضع الجمهور في حالة من الانبهار الصوري.
وهنا سوف نسلط الضوء على جذور الصور المسرحيَّة على نطاقٍ عالمي ونناقشُ الشخصيات الرئيسة التي قدمت مساهماتٍ كبيرة في هذا الشكل الفني. ويمكن إرجاع الصور المسرحيَّة إلى الحضارات القديمة مثل المصريين واليونانيين والرومان، حين استخدمت هذه المجتمعات المبكرة العناصر المرئيَّة مثل الأقنعة والأزياء والدعائم لتعزيز أدائها المسرحي وإشراك الجمهور في ذلك الأداء. واستمرَّ استخدام الصور في المسرح في التطور على مرّ القرون مع التقدم في التكنولوجيا والفنون، الأمر الذي أدى إلى نتاجات أكثر تطوراً ومتعددة الأبعاد.
إنَّ مسرح الصورة هو فنُّ تقديم القصة أو الفكرة عبر الصور والرموز التي يتمُّ تقديمها للجمهور من خلال الحركة والتقنيات البصريَّة. ويمكن أنْ يكونَ مسرح الصورة مسرحاً ثابتاً حيث يتم استخدام الصور المرسومة أو المنحوتة، أو مسرحاً متحركاً تكون الصور فيه متحركةً، وكذلك باقي الأدوات التي تستخدمُ في السينوغرافيا على خشبة المسرح.
إنَّ أحد أهم المسرحيين العالميين في مجال مسرح الصورة هو الفنان الفرنسي جورج ميلييه. الذي ولد في العام 1861 وكان من أوائل الفنانين الذين اكتشفوا أهميَّة استخدام التأثيرات البصريَّة في عروضهم. كان جورج ميليه يستخدم تقنياتٍ مبتكرة مثل التقنيات البصريَّة والتلاعب بالإضاءة لإنشاء مشاهد مثيرة ومبهرة على المسرح، وتعدُّ أفلامه مثل (رحلة إلى القمر) من بين أعظم التي قدمها هذا المخرج الكبير
ومن بين المسرحيين الآخرين البارزين في هذا المجال هو الفنان الأميركي (ويندل لاف) الذي ولدَ في العام 1899 وكان يقدم عروضه على المسارح الكبيرة بأسلوبٍ فريدٍ ومبتكرٍ، كان يستخدم تقنياتٍ مثل التقاط الحركة وتلاعب الأشكال لجذب اهتمام الجمهور ونقل القصة بشكل مثير.
وفي المجمل، يُعدُّ مسرح الصورة فناً مذهلاً يجمع بين الفن التشكيلي والعروض المسرحيَّة لإنتاج تجارب فريدة ومبهرة للجمهور، يستمدُّ هؤلاء الفنانون العظماء إلهامهم من الحياة اليوميَّة والعواطف الإنسانيَّة لإنشاء أعمالٍ فنيَّة تستحق الاحترام والتقدير.
فضلاً عن الفنانين الأفراد، هناك أيضاً منظمات وحركات لعبت دوراً مهماً في تشكيل عالم الصور المسرحيَّة. على سبيل المثال، سعت الحركة السرياليَّة إلى استكشاف العقل الباطن من خلال الصور الشبيهة بالحلم وتقنيات سرد القصص غير التقليديَّة. استخدم فنانون مثل سلفادور دالي، وأندريه بريتون السرياليَّة لتحدي المفاهيم التقليديَّة للواقع وخلق إمكانيات جديدة للتعبير الفني. ويُعدُّ أندريه بريتون من أبرزِ شعراءِ وكُتَّابِ فرنسا وفلاسفتها في القرنِ العشرين، فهو إحدى الشخصياتِ التي أسّستْ المدرسةَ الأدبيَّة السرياليَّة إلى جانبِ عددٍ من الروّادِ الأدبيين الآخرين في هذه المدرسة أيضاً.
أكثرُ ما يُعرف به بريتون هو بيانه السريالي (Surrealist Manifesto)، الذي دعا فيه إلى إطلاقِ حريَّة التعبيرِ، وشجّعَ فيه أيضاً على إطلاقِ مكنونات اللاوعي عند الإنسان، كما أنَّه معروفٌ بمجلداته الضخمة التي ضمَّتْ أشعاره ومقالاته. درسَ بريتون عدّةَ نظرياتٍ في التحليلِ النفسي، فضلاً عن مبدأ اللاوعي الذي ساعده في كتاباته.
بعد خدمته لفترةٍ وجيزةٍ في الجيشِ الفرنسي في الحربِ العالميَّة الثانية، انضمَّ إلى مجموعةِ الدادائيين، وبعدها بدأَ الخوضَ في المسائلِ السرياليَّة، واحتلَّتْ موضوعات حريَّة التفكير والماورائيات القسمَ الأكبر من كتاباته عبر مسيرته المهنيَّة الطويلة.
وفي جانب المشهد العراقي فإنَّ مسرح الصورة هو تجربة فنيَّة جديدة ومبتكرة أسَّسَ ونظّرَ لها المخرج العراقي الكبير صلاح القصب، الذي يُعدُّ إحدى الشخصيات المهمَّة في مجال الفن والثقافة في العراق والعالم العربي. تتميز أعماله بالابتكار والتفرد، إذ يقدم من خلال مسرح الصورة رؤى متميزة وجديدة تجسد واقع المجتمع العراقي وتعبر عن مشكلاته وتحدياته.
يعتمدُ مسرح الصورة على تقنيات متقدمة في عرض الأعمال الفنيَّة، حيث يستخدم القصب مجموعة متنوعة من الوسائل المرئيَّة والسمعيَّة لإيصال رسالته وإبراز قضاياه بشكلٍ ملموسٍ ومبدع. بفضل هذه التقنيات، يستطيع المشاهد أنْ يعيشَ تجربة فنيَّة فريدة ومميزة تجعله يدرك أهميَّة الفن في التعبير عن الحقائق والواقع بشكلٍ ملموسٍ ومعبر.
من خلال أعماله، يسلط القصب الضوء على القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي تعاني منها المجتمعات العربيَّة، الأمر الذي يجعل من مسرح الصورة وسيلة فعالة لنقد المجتمع وتحفيز التفكير والتأمل حول القضايا المهمة التي تؤثر في حياة الناس. تعدُّ أعمال صلاح القصب في مجال مسرح الصورة محطة مهمَّة في مشواره الفني والإبداعي، إذ تعكس إبداعه وتميزه في تقديم الفن بشكلٍ مبتكرٍ وملهم. ويعدُّ القصب من الفنانين الذين يسعون لتطوير مفهوم الفن وتجديد وسائل التعبير الفني لتتناسب مع التطورات والتحديات التي تواجه المجتمع.
إنَّ مسرح الصورة هو تجربة مميزة في عالم الفن، تجسد جهود الفنانين الرائدين مثل صلاح القصب في تقديم رؤى واقعيَّة ومعبرة عن المجتمع والحياة البشريَّة بشكلٍ عام. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه التجربة تحملُ في طياتها العديد من الرسائل والأفكار التي تسهم في تثقيف الجمهور وتوعيته وتحفيزه على التفكير والتأمل في قضاياه ومشكلاته.
يعدُّ صلاح القصاب إحدى أبرز الشخصيات في عالم المسرح البصري، والمعروف بأسلوبه المبتكر في خلق الصور المجردة والمعبرة على المسرح. كان عمله موضع جدل كبيرٍ داخل المجتمع المسرحي، إذ تساءل الكثيرون عمَّا إذا كان يمكن تصنيف أسلوبه على أنه مسرحٌ تجريدي. ويمكننا أنْ نستكشفَ السياق الزمني للمسرح البصري، ونتعمق في الشخصيات الرئيسة التي أثرت في أعمال صلاح القصاب، ونحلل تأثير منهجه في المسرح التجريدي، وننظر في التطورات المستقبليَّة المحتملة في هذا المجال.
صلاح القصب
إنَّ للمسرح البصري المعروف أيضاً باسم “مسرح الصورة” تاريخاً طويلاً يعود إلى الحضارات القديمة مثل المصريين واليونانيين والرومان، وتطور المسرح المرئي ليشمل التقنيات الحديثة مثل أجهزة العرض وتأثيرات الإضاءة وعروض الوسائط المتعددة. يتميز المسرح المرئي بتركيزه على الصور المرئيَّة بوصفها الوسيلة الأساسيَّة لسرد القصص، وغالباً ما يتجنب الأشكال التقليديَّة للحوار والسرد لصالح تجربة أكثر حسيَّة وغامرة للجمهور.
غالباً ما يُنظر إلى منهج صلاح القصب في المسرح البصري على أنه رائدٌ ومثيرٌ للجدل داخل المجتمع المسرحي. وقد نال استخدامه للصور المجردة والسرد غير الخطي الثناء والنقد من النقاد والجماهير على حدٍ سواء. يجادل البعض بأنَّ عمله يتجاوز التقاليد المسرحيَّة التقليديَّة ويتحدى الجمهور للتفكير في طبيعة الواقع والإدراك. يرى آخرون أنَّ أسلوبه مقصورٌ على فئة معينة ولا يمكن الوصول إليه، ويفتقر إلى العمق العاطفي والوضوح السردي لأشكال المسرح التقليديَّة.
ومن بين الشخصيات الكبيرة في عالم المسرح البصري التي أثرت في أعمال صلاح القصاب تشمل فنانين مثل روبرت ويلسون، روبرت ليباج، وجولي تيمور. يُعرف هؤلاء الفنانون باستخدامهم للعناصر المرئيَّة والوسائط المتعددة لإنشاء تجارب سينمائيَّة غامرة على المسرح.
ومن الشخصيات الأخرى المؤثرة في عالم الصور المسرحيَّة هي جولي تيمور، وهي مخرجة ومصممة أميركيَّة معروفة باستخدامها المبتكر لفن الدمى والمؤثرات البصريَّة. ربما اشتهرت تيمور بعملها في إنتاج مسرحيَّة (The Lion King) في برودواي، والتي تضمنت أزياء وأقنعة ودمى متقنة لإضفاء الحيويَّة على فيلم ديزني المحبوب على المسرح. أكسبها أسلوبها الفريد في سرد القصص من خلال العناصر المرئيَّة العديد من الجوائز والأوسمة في عالم المسرح.
وهنا يمكننا رؤية تأثير مقاربة صلاح القصب للمسرح التجريدي في الطريقة التي تحدى بها المفاهيم التقليديَّة للسرد والأداء. غالباً ما يطمس عمله الخطوط الفاصلة بين الواقع والوهم، ويدعو الجمهور إلى التشكيك في تصوراتهم الخاصة للعالم من حولهم. ومن خلال تجنب الحوار التقليدي لصالح الصور المجردة، فإن عمل القصب يجبر الجمهور على التعامل مع اللغة البصريَّة للمسرح بطريقة أكثر نشاطا وتشاركيَّة.
الفنان القدير روبرت ويلسون
وكان للأسلوب المتفرد الذي انتهجه القصب تأثيرٌ في مجال المسرح البصري. وقد ألهم أسلوبه المبتكر في إنشاء صور مجردة ومعبرة على المسرح جيلاً جديدًا من الفنانين لدفع حدود المسرح التقليدي. ظهرت أعمال القصب في العديد من المهرجانات الدوليَّة وحظيت بإشادة من النقاد بسبب أسلوبها الجريء والمتبصر في سرد القصص المرئيَّة. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال الفنانين حول العالم الذين يستكشفون طرقًا جديدة لاستخدام العناصر المرئيَّة والوسائط المتعددة لإنشاء تجارب مسرحيَّة غامرة ومقنعة.
في العودة لأعمال صلاح القصاب فإنَّها تمثل بلا أدنى شك تحدياً وخلافاً، إلا أنه كان له بلا شك تأثيرٌ كبيرٌ في عالم المسرح البصري. لقد ألهم أسلوبه المبتكر في رواية القصص المجردة جيلاً جديداً من الفنانين لاستكشاف إمكانيات استخدام الصور المرئيَّة لإنشاء تجارب مسرحيَّة كبيرة وجذابة. في حين قد يرى البعض أن عمله مقصورٌ على فئة معينة ولا يمكن الوصول إليه، ويرى البعض الآخر أنه إعادة تصور جريئة ورؤية لما يمكن أنْ يكون عليه المسرح.
هل يُعدُ مسرح الصورة تغريباً مسرحياً.:
برتولت برشت
لو حاولنا فهم الرسالة التي أراد الفنان والمخرج العراقي الكبير إيصالها إلى جمهورهِ المتعطش للتغير على خشبة المسرح، لوجدنا بأنَّ أهم أهداف مسرح الصورة هو كسر المألوف، وكسر النمطيَّة المسرحيَّة المعتادة عند المتلقي. وكان برتولت برشت إحدى الشخصيات الرئيسة في تطوير الصورة المسرحيَّة، وهو كاتب مسرحي ومخرج ألماني أحدث ثورة في المسرح الحديث بتقنياته المسرحيَّة الملحميَّة. آمن برشت باستخدام مزيج من العناصر المرئيَّة والموسيقى والحوار لإنشاء (إيماءة) أو لفتة من شأنها أن تنقل الرسالة الأساسيَّة للمسرحيَّة إلى الجمهور. لا تزال أعماله، مثل (الأم الشجاعة وأولادها) و(أوبرا القروش الثلاثة)، تتم دراستها وتقديمها في جميع أنحاء العالم اليوم.
وتعدُ نظريَّة التغريب البرشتيَّة، التي تهدف إلى إبقاء الجمهور واعياً على التطورات الاجتماعيَّة التي تعالج على خشبة المسرح، دون الانغماس العاطفي معها، تتماشى إلى حدٍّ كبير مع مفهوم مسرح الصورة.
الصورة هنا هي وسيلة لإبراز التناقضات والمفارقات على خشبة المسرح، مما يُحدث تحفيزاً فكرياً وليس فقط ترفيهاً بصرياً. لكن هناك أيضاً جوانب نقديَّة لهذه العلاقة. والنقد الأساسي يكمِنُ من أن التركيز على الصورة يمكن أن يؤثر سلباً على النص والتقاليد الأدبيَّة الموروثة من المسرح التقليدي، وعندما تصبح الصور البصريَّة هي الوسيلة الرئيسيَّة للتأثير، يمكن أن تتعرض النصوص للقمع أو التبسيط المفرط.
كان برتولت برشت يؤمن بأن الفكرة والمضمون هما الأساس، وأن الصورة يجب أن تكون تابعة لهما، وليس العكس، بينما نجد أن مسرح الصورة قد وزّع الأضواء على العناصر البصريَّة في المسرح المعاصر، ما أدى إلى تطورات تقنيَّة وفنيَّة مذهلة.
إن التقنيات الرقميَّة الحديثة والإضاءة المتقدمة أصبحت تلعب دوراً حاسماً في كيفيَّة تقديم العروض. وهذه التطورات توفر إمكانيات لا حصر لها للإبداع والتجديد، ولكنها أيضاً تفتح الباب للتساؤلات حول ما إذا كانت قد تبتعد عن جوهر المسرح كنص وتأثير درامي. إذاً، يُمكننا القول إن برتولت برشت قد ترك بصمة لا تمحى في مسار المسرح العالمي.
لقد ظهرت نظريَّة (تأثر التغريب) Verfremdungseffekt في أوائل القرن العشرين كرد فعل على التجارب الطبيعيَّة والعاطفيَّة التي يروج لها المسرح التقليدي. هدفَ برشت إلى خلق شكل من أشكال المسرح يشجع التفكير النقدي بدلاً من تحديد الهويَّة العاطفيَّة. باستخدام تقنيات مثل كسر الجدار الرابع، واستخدام الإضاءة الصارخة، وسرد المشاهد، واستخدام اللافتات، سعى برشت إلى منع الجمهور من فقدان أنفسهم في سرد المسرحيَّة والبقاء بدلاً من ذلك مراقبين موضوعيين ونقديين يمكنهم تحليل القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي تم تصويرها.
إنَّ العلاقة الترابطيَّة بين التغريب ومسرح الصورة تحمل إمكانات واعدة لمزيد من التطور في فنون المسرح. تقدم التقنيات الناشئة مثل الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، طرائق جديدة لتوسيع المكونات البصريَّة والتجريبيَّة للمسرح. يمكن لهذه التقنيات أن تخلق أشكالًا جديدة من التفاعل والمشاركة مع الحفاظ على المبادئ الأساسيَّة للتغريب وكذلك للتفكير النقدي. ومع ذلك، يظل من الضروري بالنسبة للمبدعين أن يحافظوا على التوازن بين الابتكار البصري والحفاظ على النظريَّة النقديَّة والمستمدة من التغريب في لمسرح البرشتي.
في الختام يمكننا أنْ نتصور الشكل المستقبلي لمسرح الصورة، فمن المرجح أنْ يستمرَّ مستقبل الصور المسرحيَّة في التطور حيث يدفع الفنانون حدود ما هو ممكن على المسرح.
إنَّ التقدم في التكنولوجيا، مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز، لديه القدرة على تغيير الطريقة التي نختبر بها المسرح وفتح إمكانيات جديدة لسرد القصص وإشراك الجمهور. وبينما نمضي قدمًا، سيكون من المهم للفنانين تحقيق التوازن بين الابتكار والتقاليد، والتأكد من أنَّ العناصر المرئيَّة تعزز الموضوعات والرسائل الأساسيَّة للإنتاج بدلاً من أن تلقي بظلالها عليها.
المصادر:
1. Esslin, M. (1980). Brecht: A Choice of Evils. Eyre Methuen.
2. Willet, J. (1964). The Theatre of Bertolt Brecht. NY: New Directions.
3. Brockett, O. (1999). History of the Theatre. Allyn & Bacon.
4- https://www.britannica.