المسرح الهندي.. مؤثرات دينيَّة وأسطوريَّة

ثقافة 2024/09/26
...

 د. حيدر علي الأسدي


تنعم الهند كواحدةٍ من البلدان الشرق آسيوية بالتراث والتاريخ والأساطير والتقاليد وتعدد الأديان والثقافات، فضلا عن أنها زاخرة بالظواهر الفنيّة والاحتفاليّة، كالأعياد السنوية والمهرجانات المجتمعيّة والدينيّة والفلكلورية، الأمر الذي أسهم بتشكل جذور الثقافة المسرحيّة الهندية على امتداد أعوام مضت. فالثقافة الهندية ضاربة في الجذور الإنسانيّة، وتمتد لآلاف الأعوام تاريخياً، مما يعزز المكانة الجغرافية والدولية لهذا البلد، فهو ايقونة للتعايش وحوار الثقافات والحضارات نظراً لما يتمتع به من تنوع كبير على جميع المستويات، ولأن الهند اليوم إحدى واجهات العالم على المستوى الابتكاري والعلمي والثقافي.

وبعد أن كان هذا البلد تحت وطأت الاحتلال لأعوام، أصبح في مؤخراً من أهم البلدان الذي يتصدر المشهد العالمي، لما فيه من اكتشافات وتطورات تسير بسرعة البرق وتلفت أنظار العالم أجمع، الأمر الذي يفضي إلى ضرورة إعادة قراءة ثقافة وفن الهند وتقديم جديده واكتشافاته على المستوى المسرحي.
إنَّ من أهمِّ المدلولات الثقافيّة المعاصرة هو ممارسة "اركيولوجية" معرفيّة للتراث المرجعي الذي استند إليه الفن المسرحي الهندي، وصولاً إلى المعاصرة، وماذا يقدم الآن في مسارح الهند. لأنَّ ثمة قطيعة ثقافيّة بيننا نحن العرب وبعض البلدان على المستوى الثقافي والفني، فمثلاً لا نعرف من الهند المعاصرة سوى سينما "بوليود"، وهذا القصور الثقافي التواصلي بين البلدين يتعارض مع مفاهيم حلقات التداخل والتواصل الثقافي والحضاري.
وبغية ربط الثقافات المسرحية بوحدة جمالية واحدة قوامها لغة المسرح والجمال، فإنَّ الباحث سيتقصى ما لا نعرفه عن هذا المسرح، ابتداءً من العودة للمرجعيات والفلسفات والتراث هذا المسرح، بوصفه يرتكز على ذخيرة شعبيّة متأصلة في جذوره التاريخيّة والحضاريّة ومستندة إلى المفهوم الديني في تقديم الاستعراضات والأداء في أماكن وفضاءات مفتوحة ومتنوعة.
وتعد الهند منبعاً للمسرح في آسيا وعلى الرغم من أن ظهور المسرح الآسيوي لم يكن متزامناً مع المسرح القديم في اليونان وروما، إلا أنّه يستحق النقاش هنا بدلاً من أن يكون ملحقاً لتاريخ الدراما الغربيّة. فغالباً ما يُعد المسرح الهندي الأقدم في آسيا، اذ طوّر رقصاته ودراماه في القرن الثامن قبل الميلاد. وبالنسبة إلى الكتب المقدسة الهندوسية، فقد خاضت الآلهة والشياطين معارك قبل إنشاء العالم، والرب طلب من الآلهة إعادة تمثيل المعركة فيما بينهم من أجل الترفيه الخاص بهم.
مرة أخرى هُزمت الشياطين، ووفقاً للأسطورة، أمر براهما بدمج الرقص والدراما؛ بالتأكيد الكلمات "الرقص والدراما" هي نفسها في جميع اللهجات الهنديّة، وباتت لغة الرقص تهيمن على المسرح في الهند شيئاً فشيئاً. ولعل أول ملمح هو "المسرح السنسكريتي". إنّنا نتقصّد اختيار الجذور التأسيسيّة للمسرح الهندي، لأنها تحمل معها مؤثرات واضحة على مسرحهم المعاصر حتى وإن انسلخ بعض الشيء عن القوالب المؤسسة للمسرح الهندي، إلا أنّه حاول أن يجدد ببعض الأشكال والرؤى التي حملتها الجذور المسرحيّة الهنديّة.
لعل أول مظاهر الفن المسرحي يكمن في ما يسمى باللغة السنسكريتية أو الأدب السنسكريتي، فللمسرح الشرقي -الهندي تقاليده المتمثلة بالدراما السنسكريتية التي ظهرت نحو 320 ميلاديذة، وأخذت مادتها من ملحمتين "المهابهاراتا ورامايانا" المكتوبتين 500 سنة قبل الميلاد، وتستخدم الشعر الملحمي، لذا يعد المسرح السنسكريتي أول شكل من أشكال المسرح الهندي القديم.  وقد ظهر بعد تطور المسرح الإغريقي والروماني، فيما يهم جوهريا في هذا الصدد هو أن الكاتب المسرحي السنسكريتي يرى أن هدف العرض المسرحي في المقام الأول ما هو إلا وسيلة لاكتشاف "الرازا" أو السعادة القصوى. أما الملمح الثاني هو (فن الكاطاكالي الهندي)، والكاثاكالي كلمة هندية تعني "الحركة التي تحكي قصة" أي "الحكاية الممثلة"، وهو نوع من المسرح الراقص معروف في الجنوب الغربي للهند وله أصول دينيّة، وهو خلاصة تجمع بين أنواع الرقص الديني المتعددة والرقص الشعبي الذي كان معروفاً في كل مقاطعة من المقاطعات، وهو فن كلاسيكي ينحدر من ولاية كيرالا، ويعد المسرح هبة إلهيَّة منبثقة من الثالوث الهندوسي البراهما، الفيشي، الشيفا، واعتبار العرض بمثابة "قربان بصري"، ومن عناصره الأساسية "النص، الإضاءة، الأزياء، الشخصيات، الموسيقى والأغاني،
التمثيل".
أما الملمح الثالث "المسرح الشعبي الهندي" وتدريجياً تنوعت أشكال المسرح الشعبي بالهند على غرار المسرح الشعبي براجستان الذي يعتمد على ممثلين متجولين، ويعود إلى القرن 14 قبل الميلاد. أما الملح الأهم فهو "المسرح الهندي الحديث وما بعده"،  إذ يمكن إرجاع التطور المبكر للمسرح الهندي الحديث إلى أعمال "بهاراتندو هاريششاندرا" وهو ممثل مسرحي ومخرج وكاتب مسرحي مقيم في فاراناسي "باناراس".  وهناك أيضا الكاتب المسرحي الشهير "روبندرنات طاغو"، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1913، أفضل كاتب مسرحي هندي معاصر. وقد كتب مسرحيات باللغة البنغالية. وبدء توطين المسرح الغربي في الهند مع الاحتلال البريطاني أواخر القرن الثامن عشر من خلال قدوم ممثلين من بريطانيا للترفيه عن جنودهم، ولكن نهضة الفنون المسرحية في الهند تعود إلى أواسط القرن التاسع عاشر من خلال التطورات الحديثة التي ظهرت في الهند ولم يكن هذا كله معتمداً على الحكومات آنذاك، رغم أن الحكومة حينها أدركت مسؤوليتها في مجال النهوض الفني والثقافي، ومنها تشجيع تبادل الأفكار والآراء لتحسين الأساليب الفنيّة، ونشر المصادر الخاصة بالفنون الجميلة الهنديّة، ومن ضمنها الكتب والقواميس المصورة. ثم تجيء حقبة مسرحيات ما بعد الاستقلال، إذ عانى المسرح الهندي عبر فترات زمنيّة من قمع كولونيالي تحت سلطة المحتل الإنكليزي، خاصة خلال القرن التاسع عشر، حيث سيطرت ثقافة الإنكليز على المسرح وحياتهم برمتها، علماً أن هذه الأعمال والأنواع التي قدمت آنذاك لا ترتبط بتقاليد المسرح الهندي
العتيدة، كما يقول مؤرخيها.
إنَّ تعارض الفكر الهندي ومسرحيها مع المسرح الغربي، حسب ما يذهب اليه مؤرخو ومنظرو المسرح الهندي هو في أن المسرح الهندي يخلق شعوراً بالسعادة، أو ما يسمى "رازا" عبر تصوير المواقف المختلفة والحالات الذهنيّة والمشاعر للوجود الإنساني، بينما هدف الدراما الغربيّة اظهار صراعات الحياة في أشكالها المختلفة أو صراع الآلهة مع الإنسان ونظيره.
لهذا مارس الإنكليز سطوتهم الثقافية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر لفرض مهيمنات ثقافية على المجتمع الهندي من خلال المسرح، وكانت المسرحيات التاريخية في فترة ما قبل الاستقلال تركز على استحضار الكبرياء الوطني. أما العروض المعاصرة فكان أغلبها يعتمد على "العيانيَّة البصريَّة" التي تثير الدهشة من خلال الحركات والرقص والاستعراضات المستمدة من الطقوس
الهنديّة.