طالب سعدون
أحداث كثيرة ومهمة جدا ليس في حياة الشخص، بل في الدنيا كلها لكنها ظلت مخزونة في ذاكرة ناسها، ولم يستطيعوا التعبير عنها أما لبساطة مستوى الفرد الثقافي، أو عدم القدرة على الكتابة أو النشر، أو عدم تقدير قيمتها التاريخية والاجتماعية والفنية..
قد تبدو الدعوة للكتابة عنها غريبة أو غير مطروقة، لكنها حقيقية فقد سبق للألماني والتر كمبوسكي إن عملها بعد أن أطلق سراحه من المعتقل في الثمانينيات من القرن الماضي، فقد قرر الاستقالة من التدريس والتفرغ للكتابة..
قراره هذا لا جديد فيه فقد سبقه الكثير من الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم، تركوا مهنهم وتفرغوا للكتابة والتأليف والصحافة وأجادوا وابدعوا فيها، وخلدوا أسماءهم أكثر مما لو كانوا في مهنهم الاصلية، لكن الجديد الذي جاء به والتر كمبوسي هو دعوته للناس في بلاده أن يرسلوا تجاربهم الشخصية اليه. كان والتر كمبوسكي على قناعة بأن تجربته الخاصة على ثراها ومشاهداته على كثرتها وما قراه وهو اكثر لا تتيح له مادة ادبية انسانية كبيرة تحقق ما يطمح اليه وتمتاز بالشمولية ويضمن قراءتها والمتعة والفائدة، التي يتوخاها والابداع الذي ينفرد به.. فقرر أن يكتب إلى الناس في اعلان في صحيفة ( داي فيلت ) لينقلوا له تجاربهم، لكي يحول المهم منها إلى تجارب شخصية بأسلوبه الخاص. بعد الاعلان تلقى سيلا من الرسائل، التي تحمل تجارب مرسليها تمخضت عنها أعمالا ابداعية كثيرة، بعد أن جمع ألف حكاية وخمسين ألف صورة من مختلف جوانب الحياة في بلاده في القرن الماضي..
عمل كبير حقق من خلاله حالة فريدة من التواصل مع عقول وذاكرة الآخرين وصورة عن الناس وطبيعة العلاقة والتفاعل بينهم وبين محيطهم، وظروفهم التي عاشوها بصورة شمولية، بما فيها الأزمات والمشكلات والكوارث، ومنها الحروب وغيرها من المعوقات التي اعترضت حياتهم.. ولماذا أبدع هذا وأخفق ذاك، وغيرها من الصور الاجتماعية والإنسانية العامة، وربما لم تتح هذه الفرصة والدقة للمؤرخين وعلماء الاجتماع والكتاب والمحللين، لكي ينقلوها بهذه الصورة والتأثير كما نقلها من عاشها وقد لا تتيح لهم المكتبة على سعتها ما يريدون من هذه المعلومات ولو وجدت ربما فاتتهم قراءتها لان وقتهم لا يسعهم لقراءتها كلها، لكن بإمكان أي متخصص مع الشارع وهم كثر أن يصل اليها ويستثمرها إبداعيا على النحو الذي أبدع فيه والتر كمبوسكي..
إن هذا العمل الابداعي يقدم رؤية للتاريخ من تحت على حد تعبير الكاتب، ففي الحروب تتحدث الأخبار والروايات عن القصف والدمار والأعمال العسكرية، لكن في غزة كانت الجرائم التي ارتكبها الصهاينة والإبادة الجماعية أكبر وأفظع كما كان يحصل في جرائمهم السابقة، فقد كان الغزيون هم الرواة الحقيقيين، ونقلوا صورا حقيقية عن تلك الجرائم والمآسي، التي حلت بهم كصورة المرأة التي فقدت أولادها كلهم، وأخرى تتحدث مع طفلها في مأساته تحت الأنقاض وآخر ينقل حالته تحت الأنقاض وغيرها من الصور، ومع ذلك فإن ما نقل لا يشكل الا نزرا يسيرا من جريمة الابادة الجماعية التي ارتكبها الصهاينة.