{أيام الرصاص}.. حكاياتٌ متشعِّبة في قالبٍ بوليسي

ثقافة 2024/09/30
...

 على العقباني


يعد فيلم "أيام الرصاص" للمخرج والممثل السوري أيمن زيدان والذي بدأ عرضه الجماهيري في الصالات السعودية منذ أيام، التجربة الإخراجية الثالثة له، حيث قدم قبله فيلمين روائيين، هما "أمينة" الذي نال عنه جائزة أحسن إخراج في مهرجان مكناس السينمائي للفيلم العربي، و "غيوم داكنة"، الذي نال "جائزة القدس" للإنجاز الفني في مهرجان الإسكندرية، كما حصل عن هذا الفيلم على جائزة التمثيل. في "أيام الرصاص" وهو عنوان يحيل إلى سنوات الجمر بما فيها من حرب ودمار وقتل وتغيرات اجتماعية وإنسانية وأخلاقية متعددة..
 نتابع حكاية رجل "أيمن زيدان" يعمل مساعداً في الأمن ويرأس مفرزة أمنية في إحدى القرى السورية، نموذج سلطوي تمتع خلال سنوات الحرب بصلاحيات كبيرة، ويتعامل ضمن منظومة عمله مع الناس والعناصر بقسوة مفرطة، رجل قاسي الملامح، عنيف، عصبي المزاج، لكنه في الداخل مهزوم ومهزوز، يعيش في بيته مع ابنتيه وزوجة ابنه المتوفى وحفيده، يحال على التقاعد، بعد أن أمضى عمره وسنوات الحرب في هذا المكان، يطلب التمديد، ويكون الرفض، يخرج من المكان الذي مارس فيه سلطته وسطوته وقسوته وتعذيبه للناس، خالي الوفاض، منكسراً، ويشعر بفقدانه لكل ذلك، الأمر الذي يجعله يمارس في حياته العادية مع بيته ومع الناس تلك السلطة التي يرفض التخلي عنها، وحده حفيده الذي يحظى بالاهتمام الكامل منه، ويحاول صنعه على هواه، فيجعله على الدوام يزور قبر أبيه، ويأخذه معه أينما ذهب، يحاول إخراج نسخة مصغرة منه.
المفصل في الحكاية وفي الفيلم يأتي عندما يُجبر "أبو جمال" ابنته على الزواج من شاب لا تحبه، فتقرر خلال حفلة الزفاف الهرب، وتفعل ذلك، وهنا تحل الكارثة على الرجل والبيت، البيت الكبير الذي يعشش فيه الخوف والتوتر والقلق والترقب، فلكل فتاة داخله قصة من الوجع والألم والغموض والخوف، والحياة الخاصة والسرية بها.
حكايات متداخلة ومتشعبة مشغولة في قالب تشويقي بوليسي، على خلفية جريمة قتل يشوبها الغموض والتوقع والاحتمال، تحاول قراءة واقع سوري تصنعه الحرب يوماً إثر يوم، أو ربما مخلفات الحرب، وما آلت إليه البلاد والعباد، وربما مخلفات السلطة القمعية التي مارسها الرجل على بيته ومحيطه، ورغم أن بنية الحكاية والأحداث تبدو واقعية لكن بنية سرد الفيلم والعلاقات تذهب نحو مسارات أخرى أكثر تعقيداً وخيالاً ومحاكاة، سواء على المستوى البصري والمونتاجي أو سرد الأحداث
وتواترها.
عناية أيمن زيدان بصورة الفيلم وإيقاعه وحركة الشخصيات والأحداث بدت واضحة جداً ومؤثرة في مشاهدة عمل سينمائي ينبش في واقع مجتمعي وعائلي، فعلت به الحياة قسوة وتشوهاً وتمرداً جعل أفراد البيت كائنات ممزقة ومتعبة وخائفة وأحياناً متورطة، الجانب الأمني للمحققين بدا أكثر إنسانية ولطفاً مع الناس والمتهمين بجريمة قتل العروس والرجل الذي التجأت إليه مصادفة أكثر من الأهل والأب والحياة نفسها.
حكاية الفيلم أو حكاياته المتداخلة لا يمكن روايتها ولا القفز فوقها في الوقت ذاته، وقد تأخذنا نحو تأويلات كثيرة إذا شئنا ذلك، ففي مجموعها تشكل علاقات الفيلم وتداخلات الحكايات التي يتابعها في مونتاج متواز ومتلاحق لمعرفة مصير الشخصيات خلف كل حكاية سوى حكاية القتل نفسها التي تبقى غامضة، رغم اعتراف" أبو جمال"(أيمن زيدان) بأنه من قام بعملية القتل انتقاماً لشرفه، هل هو عقاب الحياة لهذا الرجل الطاغي والمتسلط وأفعاله في موت أقرب بناته إليه "دلع نادر" والتي تكون في علاقة حب مع شاب من ضباط مفرزة الأمن في القرية، ربما، لكن الأسرة التي كان "أبو جمال" يعتقد أنه يمسكها بكل تفاصيلها كانت تنهار رويداً رويداً، فالابنة الصغرى تهرب وتُقتل، والثانية تحمل من عشيقها الذي يقتله شاب كان يحبها في إحدى غرف المسرح، والابنة الكبرى متزوجة من رجل يمثل أحد سماسرة الحرب و"عفيشة" البضائع ورجال المال الجدد، والذي هو في خلاف دائم مع عمه"أبو جمال"، هنا ينهار كل شيء في لمحة عين، القسوة والقوة والطغيان والجبروت لا تصنع بيتاً سعيداً، ولا حياة تُحتمل أن تُعاش،
ولا أن تبقى.
رجال الأمن الذين تولوا التحقيق في عملية القتل بدوا طيبين ومتعاونين، يحاولون فك ألغاز الجريمة المتشابكة والمعقدة الخيوط، وفي النهاية يُلمح لنا السيناريو والفيلم بعدم أهمية من القاتل في تلك الجريمة، المهم هنا هو ما آلت إليه الأسرة ومصيرها، وكذلك مصير أسرة الرجل الذي التجأت إليه الفتاة، شخصيات ذات أطباع، وأنماط خاصة في السلوك والحياة، تنجح في إيصال محتواها دون تعقيد وافتعال ومبالغة، حتى تلك الشخصيات الثانوية يتم الاشتغال عليها وكأنها من أعمدة الحكاية
وتفاصيلها.