كيف يبدو الترابط بين المسرح الألماني وجمهوره؟

ثقافة 2024/10/01
...

  د. بهاء محمود علوان

إذا تعمقنا في موضوع الترابط الوثيق بين المسرح الألماني وجمهورهِ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل أن المسرح الألماني بجذورٍ ألمانيَّة نقيَّة، أم أنه متجذر من مسارح وثقافات أوربيّة متعددة؟ . قد لا يبدو هذا السؤال للوهلة الأولى بأهمية كبيرة، لكن الموضوع على العكس من ذلك، حين نجد بأن هذا التساؤل ما زال قائماً ومثيراً للجدل بصورة تفاعليّة حتى يومنا هذا، ويُنتج عنه أسئلة يتمخضُ عنها الكثير من النقاش. وتعضيداً لما جاء يمكننا أن نتساءل عن الطابع الألماني النقي والنموذجي على خشبة المسرح؟

إنَّ الأمر لا يتعلق بالتأكيد بتأثير اللغة الألمانيّة وقدرتها على توظيف التقنيات السرديّة في المنتج المسرحي فحسب، بل في المخزون الفني أو المواقف الجماليّة للمسرح الألماني عبر عصور متعددة. 

وفي هذا الصدد نلاحظ، بأنَّ المسرح الألماني كان، ولا يزال، جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المسرح الأوروبي ومتداخل معه، في عملية تبادليّة من التأثير والتأثر، وإن النقاشات المحتدمة حول "الملكيّة، أو العائديّة الوطنيّة لهذا المسرح"، وتحديد ما هو "أجنبي النشأة"، وما هو "ألماني تقليديٌّ بحت". 

ومنذ القرن السابع عشر كانت الأنظار تتوجه إلى الترابط الحاصل بين الجمهور والمسرح على النطاق الأدبي الألماني. وإذا سلّمنا بأن الأمر لا يتعلق بالمجتمع أو الجمهور تحديداً، بل بالموروث المسرحي الكبير الذي نشأ في العصور الأدبية، ومنها عصر التنوير والعصر الكلاسيكي، وكذلك العصر الرومانسي. 

لقد كان المسرح الألماني وطوال مسيرته صناعة متقلّبة تتجاوز الحدود الوطنيّة، وخاصة في القرون السابقة قياساً مما هي عليه اليوم. ومن المؤكد أيضاً أنّه كانت هناك أوقات حاولت فيها الرقابة أو القمع السياسي تقييد الحياة المسرحية في ألمانيا. وفي بعض الأحيان، كان عرض مسرحيات ما يسمى بـ "المسرحيات المعادية للدولة، أو المنتقدة لها" محظوراً، وتم طرد الفنانين الذين يتمتعون بشعبيّة كبيرة من العمل أو نفيهم خارج البلاد، حتى وصل بهم الحد إلى القتل. أما في القرن العشرين فقد أصبحت مسألة هجرة العديد من فناني المسرح جزءاً من تاريخ المسرح الألماني. والسؤال الذي يُطرح في الأوساط المسرحية اليوم: ما هو حال المشهد المسرحي الألماني في وقتنا الراهن؟ 

في ألمانيا كثافة عالية وفريدة في عدد المسارح المنتشرة فيها، وهي اليوم مسارح الدولة أو التي تعود إلى إدارات المدن الكبرى ذات الجذور المسرحية، وكذلك ما يسمى بالمسارح القوميّة، وهذه تكون في الغالب بقايا من عصر الدويلات الألمانيّة الصغيرة في القرن الثامن عشر؟ وينبغي لليونسكو أن تراعي هذا الإرث الكبير في "المشهد المسرحي الألماني"، وتأخذ على عاتقها تحديد مهامه ورعايتهِ، بما في ذلك فرق الأوركسترا الكثيرة والمتعددة. 

وقال رئيس البوندستاك الألماني "البرلمان" نوربرت لاميرت، في تصريح عام 2010 إن "المسرح في ألمانيا ذو أهمية كبيرة ومؤطره، وعلى عاتق الدولة رعايته من ضمن التراث الثقافي العالمي غير المادي". وهذا المصطلح الذي كان حتى ذلك الحين يستخدم فقط فيما يتعلق بإنقاذ بعض البنوك الكبرى في الأزمة المالية التي مرت بها ألمانيا بين عامين 2007-2008.

فهل هذه المكانة الكبيرة التي حصل عليها المسرح تأتي من خلال التهافت الكبير وإقبال الجمهور الألماني على المسرح وتمنحه مثل هذه الخصوصيّة في البنية الثقافية للألمان؟ 

إن تنامي الطلب على المسرح يتجاوز في كثير من الأحيان متعة المشاهدة، أو كيف يصور الممثلون الناس على خشبته، أو تلك القطع المسرحية التي تم كتابتها في العصور الأدبية, مثل العصر الكلاسيكي أو الرومانسي، من قبل كبار الأدباء والشعراء، أمثال "يوهان فولفكانك غوته، أو فريدرك شيلر، أو إبراهام ليسنك"، والتي تُعرض إلى يومنا هذا بأسلوب حديث وتقنيات مسرحية مبتكرة، فضلاً عن معماريّة خشبة المسرح التي تتسم بالحداثة. وكذلك السؤال: هل إن الألمان يتصورون حقاً أن مسرحهم يحمل بين طياته أهدافاً أكثر أهمية من متعة مشاهدة تلك العروض؟ 

وفي هذا الصدد ينبغي ألا نغفل ما قاله الكاتب المسرحي الكبير برتولت برشت حين علق على أهمية المسرح، والدور الذي أناطه هذا الكاتب العظيم على عاتق المسرح، لوجدنا بأن برشت قد قصد هذا تحديداً، عندما كتب في عام 1926 في كتابه Less Gips! حين طرح هذا التساؤل: "هل أن المسرح هو محل لتقديم الترفيه المسائي؟"، وكانت أجابته عن هذا التساؤل "لا أحد سوف يكون سعيداً أو راضياً بذلك"، وكان يقصد هنا الجمهور الألماني. 

إذن، ما هو ذلك الشيء الذي يبدو أن الألمان يتوقعونه من المسرح؟، إذا كانت افتراضات برشت صحيحة؟، فمن المؤكد أنّه ليس "الشعور بالملل الدائم" هو الذي يجعل الألمان، كما يزعم برشت الكاتب المسرحي المتمرّد والآتي من مدينةِ أكسبورك، يندمجون ويتماهون مع مسرحهم، بل إن عوامل أخرى أكثر أهمية هي التي تجعل الألمان متمسكين بمسرحهم إلى هذا الحد. 

إنّ هذه التصريحات الاستفزازيّة التي أثارها برتولت برشت حول المسرح لقيت صدىً واسعاً، لا سيما لو عرفنا الأسلوب الساخر الذي كان برشت يمارسه أثناء عملية النقد.  

ولو عدنا إلى ما قاله الكاتب فريدرك شيلر، ممثل العصر الكلاسيكي الألماني إلى جانب فولفكانك غوته، بأنّ المسرح يجب أن يكون "مؤسسة أخلاقيّة"، ويتوجب على المسرح على صعيد الواقع الاجتماعي تمثيل الجانب الأخلاقي على خشبة المسرح. وهذا الذي جعلَ المسرح في ألمانيا مسرحاً اجتماعياً مبالغاً فيه بشكل كبير في تبني الجانب التصحيحي للمجتمع. كل تلك الأدوار الملقاة على عاتق المسرح تمنحه مكانة خاصة، وحالة استثنائية، يفترض أنّها "ذات صلة بالنظام القائم"، مقارنة بالمؤسسات الثقافيّة الأخرى. ربما لم تكن كلمة شيلر هذه غريبة تماماً على كاتب المسرحيات التعليميّة، ومؤسس المسرح التعليمي والجدلي برتولت برشت، بل كان متناغماً معها. أما اليوم فإن المسرح الألماني لا يزال عرضة للنقاشات والجدال حول ماهية الدور الذي يلعبه على الصعيد المجتمعي. وهذا ينطبق اليوم على النظام الحالي لمسارح الولايات والمدن الألمانية الكبيرة ذات التقاليد المسرحية العريقة. 

لقد كتب كلاوس بريكلب في صحيفة (Süddeutsche Zeitung) الألمانية في شهر العاشر من أيلوم من العام 2017، أنه يبدو أن الوقت قد حان لطرح أسئلة ذاتية نقديّة على النظام المسرحي الألماني، وكذاك حول ما إذا كان هناك وراء المظهر الجميل للحرية الفنية، الالتزام تجاه المجتمع والديمقراطية والإنسانية. كما أنّه يتوجب على المسرح أن يكون فاعلاً أساسياً في المجتمع وليس مكاناً للاستمتاع، أو للحضور من أجل (الترفيه المسائي). كما يجبُ على المسرح أن يلعبَ دوراً تنويريّاً داخل المجتمع، وأن يكون مؤثراً في خلق الوعي المجتمعي.  

وحين تطرق فريدرك شيلر بمقولتهِ المشهور بأن المسرح هو "مؤسسة أخلاقيّة"، كان يشير في ذلك إلى الدور الأخلاقي للمسرح تجاه المجتمع، كونه منبراً تنويريّاً مشعّاً للنُظم القيميَّة، ولم يكن شيلر يقصد أكثر من ذلك بكثير في استعارة "المؤسسة الأخلاقيّة"، كما يجب أن تكون "خشبة العرض" (schaubühne) تصحيحيَّة وفي حالة من الاستنفار أو "الاستبداد"، إن جاز التعبير. 

المصدر:

Die Deutschen und ihr Theater, 2018 transcript Verlag, Bielefeld

*(أستاذ الأدب الألماني في جامعة بغداد-

أكاديمي وكاتب في الدراسات النقدية والمسرحية)