انفتاح الرؤية النقديَّة نحو آفاق الشعريَّة
د. رياض موسى سكران
لأن الرؤية النقدية التي انطوت عليها قراءة د.نوفل أبو رغيف للمتن الراكز لكتاب "نهج البلاغة" لسيد البلغاء وإمام المتقين علي بن أبي طالب "ع"، هي رؤية تمتح من نبع الحقيقة الخالصة التي تغور إلى أعماق سحيقة في المعرفة، وتكتشف الأشياء من مسافة بعيدة في المكان والزمان، لتتجلى الحقائق بحجمها الحقيقي، بعدما تتلاشى الصغائر وتضمحل الهوامش، ولا يبقى منظوراً من المعاني إلا ما له ثقله وحجمه وأثره
الراسخ.
من هنا فإن سِفر أبو رغيف الذي انطلق في عالم "نهج البلاغة"، ينطوي على أكبر من دلالة وأوسع من مغزى، لاسيما وإنه يدخل هذا العالم من بوابة مناهج النقد الحديثة، مستعينا بمفهومات الشعريَّة، حديثها وقديمها، العربيّة منها والغربيّة، محللاً ومفسراً، متبنياً ومعارضاً، غير مستسلم للتنظيرات أو التطبيقات التي تحققت في هذا الميدان، وهو يسعى لتشكيل خطوط خارطة معرفية تتداخل فيها رؤى المنجز العربي والغربي، وتتعاضد في فضاءاتها أبعاد الأفق المعرفي القديم وتجليات الفكر الحديث.
ومثل محاولة متسلق محترف لقمم جبال شاهقة، تبدو محاولة أبو رغيف في قراءة كتاب "نهج البلاغة" على وفق مفهومات ومعايير المناهج النقدية الحديثة، لاسيما وإن هذا الكتاب يعد من أكثر الكتب شيوعاً وتأثيراً في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، وقد حظي بالشرح والتفسير والتحليل ما لم يحظ به أي كتاب آخر، واضطلع بهذه المهام شخصيات راجحة في ميزان الفكر والثقافة وبشكل خاص علوم اللغة، لما ينطوي عليه هذا الكتاب من بلاغة فذة، منحت الثقافة العربية روحها ورسخت هويتها، وطبعتها بطابعها المتميز والمتفرد.
وإذا ما كانت الدراسات النقديّة الحديثة للشعرية قد قدمت مفهومين، ينص الأول على أن الشعريَّة هي علم الأدب أو نظرية الأدب التي تهدف إلى "معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل.. وهي تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته"، وفي هذا المفهوم تبدو محاكاة شعريّة أرسطو واضحة الملامح، فيما يتجه المفهوم الثاني إلى أن البحث في الشعرية داخل النص الأدبي، هو "استنطاق الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية"، على أن تحديد تودوروف لهذين المفهومين، وبهذين المستويين، لا يعني تعارضهما، أو قابليتهما للاستبدال الواحد بالآخر، بل يعني تعاضدهما في توصيف مقاربات النص، كما أشار جان كوهين لحدود هذا التعاضد بين الشعريّة والأدبيّة وهو يحلل بنية اللغة الشعريّة بوصفها "عملية ذات وجهين متعايشين متزامنين: الانزياح ونفيه، تكسير البنية وإعادة التبنين". لذا فإن ما تهدف إليه دراسة أبو رغيف النقدية الحديثة وهي تستثمر آليات الخطاب النقدي ونظرياته وإجراءاته، هو استكشاف آفاق المعنى وتجلياته المفتوحة على فضاءات الشعرية في "نهج البلاغة" بوصفه إنموذجاً للنص الأدبي القائم على منظومة من علاقات تركيبية ظاهرة وباطنة، حيث إن لكل من هذه العلاقات طبيعتها ووظيفتها المتفردة، فضلا عن هدف الدراسة الضمني المتمثل في رصد منظومة تلك العلاقات الدلالية والتركيبية التي أسست شبكة منتجة للمعنى، وذلك عبر استثمار مجمل الإمكانات التي تتيحها مجسات النقد الفاعلة في بناء استراتيجية قرائية قائمة على أساس معطيات مناهج القراءة والتلقي من سيمياءٍ وتلقٍ وتفكيكٍ وتأويل. وقد صنف أبو رغيف هذه العلاقات التركيبية في هذا النص إلى: علاقات بين عناصر حاضرة وعناصر غائبة، وركز عليها بشكل أساسي بوصفها علاقات منتجة للمعنى لأنها تحمل ترميزاً عاليا، ومعنى عميقا وهي ذات مظهر دلالي، وعلاقات بين عناصر مشتركة الحضور، وهي علاقات تشكيل وبناء وهي ذات مظهر تركيبي.. وهذا التصنيف أتاح للناقد أرضية معرفية ليقم عليها معمار رؤيته التحليلية العلمية والمنهجية لآفاق الشعريّة وتجليات المعنى المفتوح في نص "نهج
البلاغة".
ولأن هذه القراءة النقدية لم تكن مغلقة باتجاه تنميطي محدد، سواء في التعاطي مع الكتاب كأثر شاخص، أو في التعاطي مع الشعريَّة كإسلوب، وهذا ما جعل الأفق مفتوحا أمام القارئ للدخول في فضاءات هذه القراءة النقدية العميقة، التي انفتحت بدورها على مستويات جديدة من التلقي المعاصر، وهذا ما نتج عنه هذا العدد الكبير من الدراسات والمتابعات النقدية لعدد كبير من النقاد والمفكرين العراقيين والعرب، والتي آثرنا جمع عدد منها، بانتقاء وعناية، وبما يكشف عن تنوع تلك الرؤى والقراءات التي توقفنا عندها ونحن نرصد أصداء هذا الصوت النقدي وأثره في المحيط الثقافي العام، على اننا سنتوقف في مناسبة أخرى، عند تلك القراءات التي دارت في محيط البحث العلمي المتخصص، ضمن حدود المؤسسة الجامعية، حيث كان أثر هذه القراءة النقدية حاضراً ومؤشراً في عدد كبير من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه التي ناقشنا عدداً منها في معظم الجامعات
العراقية.
مثل هذا المستوى من الجدل المعرفي، يعد اليوم حاجة حقيقية وضرورة ملحة لطلبتنا وباحثينا في الجامعات العراقية والعربية ليفيدوا منه، ويترسموا خطاه، في بناء استراتيجيات القراءة وتقصي المعرفة وطرائق البحث ونظم الاكتشاف، فالناقد هنا يعنى عناية خاصة بتحديد الهدف ورسم خطة البحث ضمن مواضعات البحث العلمي، واشتراطات التعاطي المنهجي مع المصطلح، وهو يوجه النظر بأمانة وموضوعية إلى المصادر والمراجع المختلفة عربية أو أجنبية مترجمة، بعد أن أدخلها في مختبره التحليلي متوقفاً عند كل ما يمكن أن يرسخ أنساق رؤيته النقدية بمفاصلها التكوينية الدقيقة، هذه الرؤية التي تشكلت انطلاقاً من موقف الناقد من هذا الأثر الشاخص في الثقافة العربية والإسلامية، فالموقف الذي يتبناه الناقد تجاه "نهج البلاغة" هو الذي قدح تلك اللحظة الحاسمة في عملية تشكيل رؤيته النقدية، وهو موقف يكشف عن عمق الانتماء وصدقية
المبدأ.