عبدالزهرة محمد الهنداوي
في لحظة وانت تتابع ما تشهده بقاع الأرض من قتل وتشريد، وفرهدة بين الدول والمجتمعات، تشعر وكأنك تعيش في قرون ما قبل التاريخ، تحكمها شريعة غاب، يأكل القويُّ فيها الضعيف، وحين تتعمق في التأمل، يصيبك الإحباط، اذ تدرك أن الإنسان أكثر ضراوة وأشد فتكا بغيره من البشر، مما تسلكه حيوانات الغاب، التي يفترس قويها ضعيفها، بسبب عدم وجود قوانين وأنظمة تردع المفترِس (بكسر الراء) وتُنصف المفترَس (بفتح الراء)، اما والحال مع (الإنسان) الذي خلقه الله في احسن تقويم، فينبغي أن يكون الحال مختلفا تماما، فسلوك البشر نظمته وحكمته المبادئ والمثل والقيم السماوية، التي جاء بها الأنبياء والرسل من عند الله، وما تضمنته من عقوبات شديدة لمن يخرج عن مسارها، ولم يكتف البشر بما نزل عليهم من السماء، إنما ذهبوا ليضعوا المزيد من الأنظمة والقوانين، واللوائح، كل ذلك لكي يحموا أنفسهم من بطش أبناء جلدتهم!، ولكن كل تلك الضابطات، لم توقف روح الغاب المكنونة داخل النفس البشرية، فما أن تحين اللحظة المؤاتية، حتى يتحول ذلك الإنسان اللطيف (الكيوت) صاحب المبادئ والقيم النبيلة، إلى ضبعٍ ضار، يفترس بوحشية كل مَن يجده أمامه من بني البشر الآخرين!.
والتأريخ زاخر بمهرجانات الافتراس الوحشية بين البشر، والأكثر عجبا أن الإنسان الذي اكتشف التكنولوجيا، لكي تمنحه شيئا من الدعة والرفاهية، ما لبث إن حوّل تلك التكنولوجيا إلى مخالب وأنياب، يمزق بها أحشاء الآخر من دون رحمة، تاركا خلف ظهره كل ما تعلمه على مدى مئات القرون من مبادئ، ينبغي أن تردعه في لحظة تحوله إلى وحش كاسر!.
استحضرت هذه الصور المرعبة، وأنا أتابع تلك المشاهد القاسية، التي كانت تأتينا من لبنان، الذي طالما تعرض أهله إلى افتراسات ونهش بأنياب ثلاثية الابعاد!، فعلى حين غفلة، بدأ جهاز الاتصال من نوع (البيجر) يتفجر ذاتيا بايدي اللبنانيين، الذين تربطهم علاقة صداقة مع هذا الجهاز، وبقيت الأجهزة تتفجر هنا وهناك في مشهد مرعب وغير مسبوق، ما تسبب بخلق حالة من الهلع والرعب بين الناس، فالواحد منهم ربما كان يتوقع أن يتعرض بيته لقصف بالطائرات أو الصواريخ من قبل عدّو تجاوز كل المديات وضرب كل نواميس الكون وكل قيم ومبادئ الإنسانية وقوانينها وأنظمتها وما جاء من السماء، ضربها جميعها عرض الجدار، وراح يرتكب أبشع الجرائم، ومنها جريمة تلغيم هذه الأجهزة وتفجيرها وهي بأيدي اصحابها، فمات من مات وأصيب من أصيب، فتيتمت أطفال وترملت نساء.
جريمة الصهاينة بتفجير البيجر التي ما كانت الأولى، ولن تكون الأخيرة، جسدت شريعة الغاب بأفظع صورها ، ولكن هذه المرة بأنياب تكنولوجية، وهذه الجريمة الشنعاء، تجعلنا ندرك تماما أننا أزاء عدو لاعلاقة له بالإنسانية مطلقا، بل هو من نوع المبيدات المضادة للانسانية، ووفقا لهذا المبدأ ينبغي التعامل معه.. كما أن جريمة (البيجر)، تنذر بأن الإنسان مقبل على صناعة متطورة جدا للموت ، اذ لن يكون مستبعدا، أن يتحول جهاز التلفزيون الموجود في (الهول) في لحظة جنون إلى وحش مفترس ينقض على العائلة فيمزقهم إربا، وعليه فانه لا مأمن ولا أمان لهذه التكنولوجيا، التي دخلت في كل تفاصيل حياتنا، ولم نعد قادرين على العيش من دونها، فماذا نحن فاعلون، والى أين نحن سائرون؟ إنها شريعة غاب التكنولوجيا!.