أحمد حسن
أيتها الأخلاق النبيلةٌ كيف تحولت إلى كيان بائد؟ أين أنتِ من عالمٍ يحسبك عارًا، ويرى في التخلي عنك شجاعةً وتقدمًا؟ أين أنتِ من زمانٍ تلاشى فيه المجتمع ليصبح شبحًا، والدولة وهمًا، والأسرة سرابًا؟ أين هو نور الحق وبصيص الفضيلة، وقد اختلطت الفواصل بين ما هو طبيعي وما هو شاذ، ما هو إنساني وما هو حيواني، في ضباب كثيف لا يرى من خلاله سوى العتمة؟
أيُّ زمنٍ هذا الذي جعل من الأخلاق عيبًا، ومن التجرّد منها شجاعةً يفاخر بها الجهلة والعابثون؟ زمنٌ أضحت فيه الحرية مطلقةً حدّ الانفلات، لا قيد عليها سوى أهواء الأفراد، ولا ميزان لها سوى ما تهوى الأنفس وترغب، ولا ضابط لها إلا ما يخدم مصالح من يمسكون زمام السلطة والمال.
قال الجاحظ: "من لم يُؤَدِّبه الكرم، أدّبه اللؤم". كأن لسان حاله ينطق بما آل إليه زماننا؛ إذ صار الكرم الأخلاقي عيبًا، وأصبح اللؤم شرفًا. ما نشهده اليوم هو نتيجة ابتعادنا عن القيم التي تميز الإنسان، وحلول مصالح القوى الجشعة محل هذه القيم. في زمن كهذا، يختلط الشريف بالوضيع، والعاقل بالجاهل، ولا نميز بين القيم والأهواء.
أيتها الليبرالية، كيف تحولتِ من عالم تتوجه الأخلاق إلى آخر صارت فيه الأخلاق عبئًا على أهله، واستحال فيه التمسك بالفضيلة ضربًا من ضروب التخلف! عالَم يخاف فيه الإنسان من بني جنسه أكثر من خوفه من وحوش البراري، ويهاب فيه الروبوتات الخوارزمية أكثر من قوى الطبيعة الغاشمة.
في العالم الذي صنعته الليبرالية الأمريكية، غاب الفكر عن المدارس، وغاب العلم عن مجالس التعليم، واضحت الجامعات والأسواق سواء. التعليم صار بضاعة، والشهادة فيها ثمرةٌ لمن يدفع، لا لمن يُفكر. هي دنيا تسوّق كل شيء، من النجاح إلى المبادئ، حتى بات النجاح سلعة تُشترى بالدولار، لا ثمرة تُقطف بالاجتهاد والعلم.
أصبحنا كمن يدخل سوقًا، ليس فيه إلا ما تهوى الأنفس، طالما لديك ما تدفعه. وكلما عظم الدولار بين يديك، زاد حقك في النجاح والتفوق. أما من عجزت يداه عن بلوغ ذاك المقدس الورقي، فلا مقام له بين الناجحين ولا موضع له في الصفوف الأمامية.
لقد بات الدولار، ذاك الورق الأخضر، إلهًا في معابد الليبرالية، يُقدّم له الناس فروض الطاعة والولاء، وهو يُوزع عليهم نِعَمه بقدر ما يقدّمون له. يقتل الإنسان إنسانًا ليس لأنه عدوه، ولا لأنه من غير دينه أو جنسه، بل لأنه لم يعد يخدم مكائن الشركات، ولا يسجد للرب الجديد، الدولار!.
إن كنتَ في هذا العالم تريد أن تكون "ليبراليًا"، فعليك أن تذبح من نفسك كل ما هو فطري وطبيعي. أن تتوقف عن الإنجاب، أن تبيع إنسانيتك مقابل مكاسب مادية، وأن تكون عبدًا لشركات لا تعرف من الأخلاق إلا ما يُدرّ عليها ربحًا. أما إن خالفتَ هذا النظام، فأنت شاذٌ في عالمك، غريبٌ بين أهلك.
لقد أصبح للرأسمالية أرباب جدد، أربابٌ من نوع آخر. فإيلون ماسك بات ربَّك في "عالم X"، ومارك زوكربيرغ هو سيدك في "عالم الفيسبوك". هم الذين يملكون زمام حياتك، يتحكمون بما تفكر به، وما تفعله، وحتى بمن تتواصل معه. في ظل هذا الكوكب الليبرالي، نحن لسنا سوى أرقام تُدار بخوارزميات معقدة، تُديرنا الآلات، ونخضع لما تُمليه علينا التكنولوجيا.
لقد انقلبت الطاولة على البشر، فما عادت الآلات تخدمنا، بل نحن من نخدمها! أصبح الإنسان يولد في هذا العالم وهو يحمل قيود التكنولوجيا قبل أن يرى نور السماء، يعيش في واقعٍ بلا أسرة، بلا أبٍ يرعاه ولا أمٍ تحتضنه. صار الإنسان كالبهيمة، يربى على يد خدمٍ لا يعرفون من مشاعر الأبوة إلا ما تمليه عليهم الوظيفة.
توقفنا عن التزاوج الطبيعي، وأصبح الإنجاب تخلفًا. وصار المرض، ذاك الضعف البشري، سببًا للموت الرحيم، فلا مكان في هذا العالم إلا لمن يركض في سباقٍ أبدي نحو التفوق والنجاح المادي.
في هذا العالم، الإنسان ليس سوى ترسٍ في ماكينة ضخمة تديرها الشركات الكبرى. كلما ازدادت أرباح الشركات، زادت معاناتنا، كأن البشرية قد سقطت في يد كائنات غريبة، لا هم لها سوى استغلالنا ونهب إنسانيتنا.
قال ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران". وهذا الظلم، الذي يمثله استبداد الشركات الكبرى، لا يضر إلا البشرية، وينذر بخراب العالم. إن ظلم الشركات التي لا تهتم إلا بأرباحها، وظلم النظام الذي لا يعبأ إلا بالمال، يجعل الإنسانية تنهار تحت وطأة الجشع.
فهل من مخرج من هذا الخواء الأخلاقي الذي يداهمنا؟ يكمن الجواب أيها القارئ العزيز، في البحث عن مكاننا من هذا العالم الموحش؟ أترانا أصبحنا روبوتات في خدمة الآلات، أم أن فينا بقايا من الإنسانية تستطيع أن تقاوم هذا التيار الجارف؟ لقد سقطت الإنسانية تحت وطأة الدولار، وتحولت الأخلاق إلى مجرد كلمات فارغة تُتداول على ألسنة لا تعرف لها معنى.