زهراء الماجد
مستلقياً على الأرض أم واقفاً، في الظهيرة أم ما بعد الغروب، لا نعلم متى وأين كان اندهاش الإنسان لأول مرة حول الوجود، أو الواقع قبل أن يضحى وجوداً، فالبحث عن المختلفات والمتفقات من الأشياء المحيطة به، كانت أول علامات الريب والضياع للعقل البشري، الذي عمل جاهداً لاختراع حيل متنوعة، لمجاوزة الاختلال، فالسببيَّة بحسب الفيلسوف الالماني إيمانويل كانط ما هي إلا استعداد ذاتي عند الإنسان، منبثقاً في بنية العقل لأجل تنظيم وتقنين حالة الفوضى الوجوديَّة التي يشعر بها ازاء الأشياء المحيطة به، فيخترع مرة علة اسطوريَّة تفوقه قوة ومكانة، تنظم له شتات الواقع وتجعله أكثر وضوحاً وفهماً، مما يهيئ له بلوغ الغاية القصوى لكل إنسان، وأخرى علة مفاهيميَّة كالتي ابتكرها أرسطو اليوناني في كتبه المنطقيَّة والميتافيزيقيَّة. إنَّ تحديد العلل الأولى والأسباب المباشرة للأشياء، لا ينحصر في نطاق القدرة التفسيريَّة والايضاحيَّة فحسب، بل إنّه يمارس تأثيراً سيكولوجيا على الإنسان، كلما ازدادت الأمور وضوحاً وجلاءً وفهماً، ازداد شعور النفس بالاستقرار، حيث يرتبط اليقين بالعلة بشكل وثيق، كلاهما يؤدي الدور نفسه بالنسبة للإنسان، فعندما يتم تفسير شيء ما من خلال ربطه بعلة معينة، يؤدي ذلك بالضرورة إلى الطمأنينة. لتغدو إحدى وظائف العلة هي إضفاء على الأشياء مزيداً من التنظيم والوضوح.
ولكن، عندما نسحب تقنيات العلل من ميدان عالم الطبيعة الى التجمعات البشريَّة، هل ستؤدي ذات الوظيفة التفسيريّة والايضاحيّة؟ بل السؤال الأكثر مهابة، هل توجد علة فاعلة وواضحة لما يحدث في العالم اليوم؟ هل سيقاوم الإنسان العيش في عالم بلا وضوح وبلا علل؟
وكأنّه عاد إلى بداياته الأولى عندما كان مستلقياً أو واقفاً، لا يعلم بدلالة عتمت السماء في لحظةٍ ما، ولا يفهم سبب ثباته على أرض منبسطة، عوضاً عن التلاشي في تلك البقعة البيضاء في وضوح السماء، لم تترك الأنظمة السياسيّة الحاليّة أية إمكانات عقليّة للإنسان لكي يفهم راهنه، فهي تضعه أمام موجة من التغيرات المتواترة والمتسارعة، التي تصعق العقل وتصيبه بالذهول، فينسى أنّه صاحب الحيل الأكبر، ليعيش حالة انفعال دائم تجاه الأحداث، موجهاً تركيزه على المحفزات، ومتجاوزاً العلل غافلاً عنها، فتسقط كل امكانات الفهم لدى العقل المتلقي، أمام العقل الصانع للحدث، فتتحول العلة في عالم الحدث من كونها أداة لفهم العالم وتكوين التفسيرات الخطيَّة التي تبدأ بسبب وتنتهي بنتيجة، إلى غاية هاربة لا يمكن اللحاق بها، مما يجعل العقل يواجه حالة من اللا يقين في عالم مليء بالأحداث المتشابكة التي تتنافى مع نظام العقل التفسيري الراغب في الفهم، فيتخلى عن النتائج والأسباب الجوهريَّة ويصب اهتمامه على قشور الحدث والمؤثرات الأخرى، فبحسب فيلسوف الاختلاف جيل دولوز نحن نعيش في عصر الكليشه، وبذلك ستضحى لعبة النرد غير الممكنة في نطاق الكون، ظاهرة ضروريَّة في عالم الحدث.