سناء الوادي
من المسلَّمات التي تعلمناها من دروس التاريخ أنَّه لا يمكن لجذوة الحريَّة أنْ تنطفئ في قلب كلِّ حرٍّ أبيّ، ما دام الغازي المعتدي يتنفس الحياة في بلاده، وها نحن نرى بأمِّ العين مخططات الكيان الصهيوني الأزلية، التي يسعى رئيس الحكومة اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو لتنفيذها واقعاً، فمن السطحية بمكان اعتقاد البعض أنَّ اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله هو الهدف المنشود لإسرائيل، أو أنَّ مجزرة القيادات، التي جرت في العشرة أيام الأخيرة هي بداية النهاية لحزب الله.
وبما أنَّ روح المقاومة هي التي أفرزت كلّ النماذج القيادية الباسلة، التي أزعجت وزلزلت الكيان المحتل حدَّ النخاع وليس العكس، وبما أنَّ هذه الرُّوح لا تزال تنبض في قلب الحركات المُقاوِمَة وتغذِّي الإرادة الصلبة لمنع المحتل من تنفيذ امتداده الاستيطاني المرسوم على خارطته المزعومة إلى أجزاء من سوريا ولبنان والعراق وكل الأردن، لتتحقق نبوءة إسرائيل الكبرى.
ولهذا نرى إسرائيل الآن تتحرك سريعاً وبخطوات متلاحقة، حيث تريد أن تستغل الوقت المستقطع الذي يحاول فيها حزب الله استعادة أنفاسه بعد الهزّة القوية التي تعرّض لها، فالقصف الجوي لم يتوقف برهة عن مناطق جنوب لبنان، فضلاً عن بث الخبائث التي تبث روح الفرقة بين أطياف الشعب اللبناني للوقوف بوجه حزب الله، وهذا في الحقيقة ما حذّر منه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقصف القرى الشيعية في جنوب لبنان دوناً عن جاراتها المسيحية والسنيّة هي لخلق حالة شعورية لدى اللبنانيين بأن حرب إسرائيل هي فقط مع حزب الله، وأنه المتسبب بجر البلد إلى حرب محققة، بيدَ أن المتابع لحالة التوحش التي تعامل بها نتنياهو وأعضاء حكومته مع قطاع غزة والضفة الغربية لم تكن موجهة لحركة حماس المقاومة، بل أبادت الشعب الفلسطيني وكانت تسعى لأن يتهجر خارج أرضه إلى سيناء مصر والأردن.
إذاً بات المقصد جلياً ففي فلسطين لا بدّ من إنهاء القضية وضياعها في أدراج الزمن، وكذلك في كل جبهات المقاومة الأخرى التي تقف خلف حق فلسطين ومازالت تناضل من اجله.
مما لا يدعُ مجالاً للشك أننا نشهد الآن إرهاصات الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه نتنياهو قبل طوفان السابع من أكتوبر بدعم أمريكي غربيٍّ بعيد تماماً عن الترّهات الإعلامية، التي تخرج من أفواه السياسيين الغربيين، هذا الشرق الأوسط الذي ستقوده إسرائيل إذا ما حققت مبتغاها، لتصبح بعدها دول المنطقة هزيلة ضعيفة، لا تعدو كونها حجارة على رقعة شطرنج تحركها وفقاً لمصالحها وأطماعها.
وفي ضمن هذا السياق فتوجيه التركيز العدواني نحو جبهة الشمال بعد فشل الخطة، التي كانت تقضي بإنهاء حماس في غزة وتأليب حاضنتها الشعبية عليها، هو سيناريو مكرر محاولاً ضرب مقدرات حزب الله وخلق شريط حدودي عازل يؤمن للمستوطنين الإسرائيلي عودة آمنة إلى مناطق الشمال، مستغلاً الفوضى السياسية في لبنان وفراغ الكرسي الرئاسي والحكومي والوضع الاقتصادي الخانق لتأجيج الغضب الشعبي والمطالبة بوقف إطلاق النار من جانب واحد وفصل الساحات وفك الارتباط مع جبهة غزة، ومن ثمَّ مزيداً من الضغط بعملية برية عسكرية تجتاح الجنوب بدأت في هذه اللحظات، التي أكتب بها هذا المقال لفرد العضلات الاسرائيلية التي تفرض بها شروط المفاوضات والتي لربما تكشّف منها حتى هذه اللحظة إرجاع حزب الله عشرة كيلومترات في العمق اللبناني أي ما يتجاوز الحدّ المنصوص به في القرار 1701.
علينا ألَّا نستبق الأمور ففي العام 2006م قامت إسرائيل باجتياح جنوب لبنان، وحاولت حصد المكتسبات لكن ما تحقق على الأرض في النهاية كان لصالح المقاومة وفشلت الغايات الإسرائيلية، وكذلك اغتيال السيد عباس الموسوي في العام 1992م لم ينهِ حزب الله، بل استمر وتجذّر أكثر، كما واغتيال الشيخ أحمد ياسين كان نقطة مضيئة على درب حركة المقاومة الفلسطينية حماس.
وبالعودة خطفاً إلى ما ذكرتُ من إرهاصات الشرق الأوسط الجديد، فإن دول المنطقة كلها ستتأثر بذلك مع اختلاف حجم التأثيرات وعمقها، حيث إنَّه لا يمكن ولادة هذا الشرق إلا بتحييد قوى الممانعة أولاً لتسوية القضية الفلسطينية حسب الرؤية الإسرائيلية، ومن ثَمَّ محاولة دمج المحتل بدول المنطقة وتشكيل تحالفات تضرب الوجود الإيراني الروسي الصيني في المنطقة، وهذا ما يفسر الدعم الأمريكي اللامحدود لكل ما تقوم به إسرائيل فالغاية النهائية تصب في بوتقة المصالح الأمريكية في المنطقة.
كاتبة وإعلامية سورية