محمد غازي الأخرس
هذه ذكرى بعيدة قدحت في ذهني، ذكرى لا تفارقني لفرط ما حفرت في نفسي خجلاً لا ينسى. في تلك الدربونة التي عشت فيها طفولتي، كان لديّ صديق كردي (فيلي)، هو الأقرب لنفسي. حدث ذلك في أوّل سنوات حرب إيران، أي أن عمري لم يكن يتجاوز الثالثة عشر. كنت كلما طرقت بابهم، خرجت شقيقة صديقي، الصبية البيضاء ذات الشعر الفاحم. كانت ساحرة، لهذا تعلّقت بها. في ذات ظهيرة، طوّحني الخيال فكتبت لها رسالة غرام، وسلمتها لها وانسحبت. أخذت هي الورقة بحيرة. بعد يوم، عدت لقرع الباب كالعادة، فلعلها تردّ عليّ برسالة. لكنها خرجت محمرّة الوجه، وطفقت تكيل لي الشتائم، ثمّ طردتني شرّ طردة. في هذه الأحيان، خرج صديقي، وظلّ ينظر باستغراب ثم دخل خلفها. صديقي ذاك جاءني في نفس اليوم وكأن شيئا لم يحدث، جلسنا حزينين دون أنّ نتحدث عما جرى ولماذا. هل علم بشأن الرسالة؟ لا أدري.
بعد شهرين تقريباً، تعالى الصراخ في الدربونة. خرجنا وإذا بسيارتين إحداهما بيكب، وثمّة رجال أمن يقفون عند باب بيت صديقي المفتوح على مصراعيه. سألنا عما يجري، فقيل إن بيت أبو فلان سيسفرون إلى إيران لأنهم تبعيَّة. كانوا ينقلون حقائب ملابسهم إلى سيارة البيكب، النساء تبكي، والجيران أيضاً. تجمدت الدماء في جسدي وأنا أشاهد الصبية تجهش بالبكاء وتدسّ نفسها في السيارة. يومها، لم أر صديقي، أو انه غاب وسط زحام المتفرجين، و"ذاك يوم وهذا يوم".
بعدها بأسبوع، راقب أبناء الدربونة رفيقاً حزبياً، ينزل هو وعائلته في ذلك البيت. قيل إنهم ملّكوه له حينذاك. ما أتذكره جيداً هو مقاطعة أهالي الدربونة لذلك الرفيق. كانت مقاطعة احتجاجية صامتة، وقد فهم هو ذلك، فأغلق عليه بابه ولم يقم أيّ علاقة مع الجيران. ما زلت أكره ذلك الرفيق، وتدمع عيناي على صديقي.