حياة إيغون في مركز المعنى

ثقافة 2024/10/07
...

 ابتهال بليبل


عدم تقبّل أعمال إيغون شيلي، لم يكن يشكل عائقا أمام بروزه كأكثر الشخصيات تكويناً وتنوعاً في صخب الحداثة. فرسوماته ليست مجرد تكملة لنشاط فني، بل هي وجه ثانٍ يقارب وضعه وحياته الشخصية. فطوال عمره القصيرة الذي أنهته الإنفلونزا الإسبانية، كان حلم الرسام النمساوي إيغون شيلي (1890-1918) الاشتغال على لوحة جدارية رمزية فخمة كما التي كان قد رسمها الفنان غوستاف كليمت ذات يوم، ولكنه لم يتمكن من تنفيذ مثل هذه الأعمال أو الأحلام. لأن الكثير ممن اطلعوا على رسوماته كانوا يصفوها بأنها غير جذابة، ومن ثمّ نشأت فجوة واسعة بين رغبة شيلي الفنية وآفاقه الواقعية طيلة حياته المهنية وحتى رحيله المبكر. 

ترسّخ اشتغاله الفني في التأمّل في وجوده الخاص، وهذا ما ينعكس في أعماله لصور الذات، فقد  صور شيلي نفسه في أعماله كرجل حكيم، وبدا كأن وجوده داخل اللوحة تكثيفا فكريا، رمزيا لمعطى أعمق من خلال إيماءات غريبة للجسد وتعبيرات الوجه وحركاته، وكأنّه وفقاً للفيلسوفة إليزابيث 

غروس.

يحاول إعادة وضع الجسد والتفكير فيه، رغبة في زعزعة المعارف والتخصصات والمجتمعات التي سيطرت على تنظيم وإدارة الجسم عقائدياً ومادياً واستكشاف فلسفته بطريقة تفترض التأمل الذاتي بوصفه مزيجاً شبه كامل من الجسد والجنس مع ما تطلقه الأسئلة الوجوديَّة من موجة تساؤلات حادة. 

ومن خلال هذا النهج، كانت أعماله شديدة القسوة والصراحة الجنسيَّة ـ تفشل في أغلب الأحيان، وكانت صوره الشخصية بمثابة هجمات مباشرة على 

المتلقي. 

وحتى بعد أن تضاءل عدد صوره الذاتيَّة، وأصبحت طريقته أكثر واقعيَّة. واحتلت النساء العاريات مكانة بارزة في أعماله إلّا أنّه أظهر بشكل وثيق في توثيق هوية كلّ فرد كما توضح غروس عبر فحص الطرق التي يؤدي بها عمل الأجساد إلى تغيير فهم المكان والزمان والمعرفة والرغبة بدءًا من عرض الآثار المعرفيَّة للاختلاف الجسدي والجنسي، كوسيلة لإظهار تأثيرات هذه المعرفة على استقبال المعنى. إنّه ينظر إلى الاختلاف الجنسي والأخلاق وفلسفات الجسد ونظريات الذات من أجل تطوير أخلاقيات جديدة تضع الاختلاف الجنسي في مركز المعنى. 

إنَّ الأعمال التي تركها الفنان إيغون شيل تحمل بصمة شبابه. فقد كانت أعماله التعبيريَّة الأولى ترسم صورة للبحث الشامل الذي كان يخوضه المراهقون عن هويتهم الشخصية والجنسيَّة، في حين كان تبني الأساليب الأسلوبيّة التقليديّة يصاحب نضجه المتزايد وقبوله لدور الزوج والزعيم 

الفني. 

وما دام تاريخ الفن الحديث يُكتب من منظور المدارس والحركات الفنية الواسعة النطاق، فإنَّ الإنجازات الفريدة التي حققها إيغون شيل لم تكن لتحظى قط بالتقدير اللائق. ولكننا اليوم نميل إلى الاعتراف بأنَّ التاريخ عبارة عن كتلة فوضويَّة من النهايات المتفرقة، التي تخضع لعدد لا يحصى من التشوّهات والتحيّزات 

الذاتية.

ومن هذا المنظور، فإنّ إيغون شيلي هو رجل من عصرنا إلى حد كبير، تماماً كما أن معاناته وارتباكه يعززان قناعتنا الراسخة بأنّه لا توجد إجابات سهلة للمعضلات الوجوديَّة التي تواجهنا في القرن الجديد. وقد كان عدم تقبّل فنّه، وانغلاقه ظاهرة جعلته متقبّلا بوصفه ظاهرة فنيَّة.. تدعو للتأمل 

دائماً.