ابراهيم العبادي
اكملت حرب الكيان الصهيوني على غزة ولبنان عامها الاول، عام كامل وآلة الحرب تستمر في حرب الإبادة والتدمير دون أن تظهر تصدعات حقيقية داخل المجتمع الصهيوني، ولم يظهر اجهاد نفسي واقتصادي وأمني يهدد تماسك هذا المجتمع. بل إن استطلاعات الرأي المستمرة تشير إلى إجماع كبير بين قوى اليمين واليسار، والمتدينين والعلمانيين، والحزبيين والمستقلين، على الاستمرار في الحرب ضد لبنان وحزب الله، ولم يحصل مثل هذا الإجماع من قبل على الحرب في غزة، بسبب وجود أسرى يهود لدى حماس. وكان اليسار والوسط الصهيوني يدعوان إلى التفاوض وقبول الهدنة والاكتفاء بما جرى لغزة من تدمير.
هذه المظاهر السياسية والاجتماعية، تؤشر إلى تغيير واضح في المسلمات والانطباعات والمعلومات الراسخة عن مجتمع ودولة اليهود الصهاينة، فقد سادت نظرية (عدم التحمل )عن هذا المجتمع، بسبب معلومات وبيانات ظلت تمثل ثوابت ولم تتزحزح، رغم أن العالم يتغير، والمجتمع الصهيوني يتغير ايضا.
فقد كان نعتقد أن استراتيجية "اسرائيل" الأمنية والعسكرية مبنية على فرضية، خوض حرب خاطفة سريعة والانتصار فيها بأي ثمن، وكنا نعتقد أن المجتمع الصهيوني مجتمع مهاجرين، أغلبهم من مزدوجي الجنسية وإن هاجس الأمن لديهم يحملهم دائما على الرحيل وحزم الحقائب والعودة، من حيث أتوا، كلما طال زمن التهديد الامني، ما يعني أن أي تهديد عسكري وأمني طويل الأثر سيقودهم إلى الهجرة مجددا، وهم لا يتحملون حرب استنزاف طويلة.
ايضا كنا نعتقد أن القتال ضد العدو الصهيوني لفترة طويلة، يقود إلى اضعاف الاقتصاد والمالية العامة والتمويل لجيش ودولة الصهاينة، ما يقود الصهاينة إلى التفكير الجدي بعدم الدخول في حرب طويلة، لئلا يتعرض اقتصادهم إلى الاجهاد والضعف، بسبب هروب الاستثمارات ورأس المال، ويحمل القلقين من المستوطنين إلى الرحيل بحثا عن الرفاه والحياة الافضل.
في جميع الحروب العدوانية التي شنتها اسرائيل على الدول العربية، كان مبدأ التفوق التكنولوجي، مقترنا بمبدأ الحسم السريع للحرب وفرض الشروط على الخصم تحت طائلة التدمير والابادة وتحويل حياة الآخرين إلى جحيم لا يطاق.
حرب غزة ولاحقا الحرب على لبنان غيرت الكثير من الانطباعات والثوابت المأخوذة عن المجتمع الصهيوني، فقد تغيرت الاستراتيجية، وربما حتى العقيدة العسكرية والامنية، تبعا للمتغيرات والظروف المستجدة، صار الصهاينة اكثر ميلا لليمين الديني المتطرف وأكثر قربا من تعاليم التوراة، صاروا انجيليين وميعاديين أكثر من ذي قبل، لاحظ مثلا أن حزب العمل اليساري مؤسس الدولة انهار، وفقد كل جماهيره لصالح احزاب قومية يمينية ودينية، تعلم هذا الجيل من تجارب واخطاء السابقين (لجنة فينوغراد التي درست أخطاء الجيش والحكومة اثناء حرب 2006 مثالا )، حربهم الحالية تشير إلى استيعابهم لكل دروس تلك الحرب وما سبقها، لقد بلغ عمر دولة الكيان العبرية 76عاما، اي أن ثلاثة أجيال أو أربعة عاشت تجارب وحروبا وتكتيكات أمنية وعسكرية، وراكمت دروسا عملية، وبنت بنية تحتية متقدمة، وأقامت اقتصادا معرفيا وتكنولوجيا متطورا، كما تغيرت سردية الافراد عن تاريخهم وحاضرهم ورؤيتهم لمستقبلهم، فالجيل الحاضر ليس جيل الهولوكوست وصدماته وأزماته النفسية، الهولوكوست صارت درسا للتوظيف العسكري والسياسي والثقافي والاعلامي، هذا الجيل لم يعد يرى وجوده وجودا قلقا، حتى يفكر بالرحيل ساعة تعرضه للتهديد والحرب، أنه يرى وجوده على الارض الفلسطينية وجودا نهائيا (أرض الميعاد) ومجيء المسيح المخلص، وليس له أرضا أخرى ليعود اليها، كما كان يفكر اجداده وآباؤه القلقون، بقاؤه في دولة تؤمن له حياته وأمنه ومعاشه بمستوى مرموق، مع المحافظة على السردية الدينية والتراث السياسي بهوية اندماجية مبنية على قيمة التفوق، تحمله على دمج غريزة الدفاع عن وجوده الشخصي والفردي بثقافة تأمين (دولته) بمنظور البقاء أو الفناء، وليس بمنظور الوطن المؤقت، الدفاع عن وجود (الدولة) العبرية يستدعي منه قبول
التحديات والواجبات، ومن هذه التحديات والواجبات تحمل الحروب الطويلة، والتعايش مع تداعيات الحرب اقتصاديا ونفسيا وامنيا. وما يقال عن هجرة معاكسة وفرار العقول العلمية والفكرية صحيح ضمن السياق العادي لنتائج ومضاعفات الحروب، أي لا يخرج عن سياق الهجرة المماثلة التي جرت وتجري في جميع بلدان العالم، حيث تهاجر النخب العلمية والمالية والاكاديمية (الطبقة الوسطى) تحت ضغط الحروب.
إن معرفة بنية العدو، بنية الشخصية الصهيونية، البناء الفكري والسياسي والمعنوي، البنية العسكرية والاقتصادية، مراكز الفكر والبحث العلمي، ومراقبة الاحزاب والتيارات السياسية والفكرية والاجتماعية، صارت مهمة لاتحتمل التأجيل، لكل من يريد الدخول في مواجهة شاملة مع الكيان الصهيوني، ولا ينبغي الاكتفاء بالمعلومات والافكار التي صارت ثوابت في الفكر العربي عموما، المجتمع الصهيوني يتغير، وقد تغير كثيرا عن جيل المؤسسين، وهو في طريقه إلى مزيد من التغيير، مندفعا بطموح توسيع رقعة الهيمنة والنفوذ، والريادة العلمية والتقنية، هذا لا يعني أن هذا المجتمع غير قابل للضربات ومنيع أمام الهجمات، فهو كأي تجمع بشري يسوده التعصب والانغلاق الهوياتي والعنصرية والاستعلاء والبحث عن التفوق بأي ثمن، معرض للانتكاسات والضربات، والتخطيط لمواجهته ومنع عدواناته وتعدياته وخططه يستدعي معرفة دقيقة به لبناء استراتيجية مضادة بعيدة المدى، فالمواجهة معه تحتاج الى بناء معرفي ودولتي ذكي ومتين. وليس بناءات مهلهلة وأفكارا متعجلة.