وساط مبارك
“أنا كنت قد جئتُ إلى قرية جدّي هاته
في قطار بطيء، وطيلة الرحلة
كنتُ أترصّد ظهورَ تلك الصّقور في الفضاء،
أعني الشّواهين الخمسة المزهوّة بتلاوين مناسرها
والتي قال عنها صحافي أميركيّ في الهيرالد تريبيون
إنّها أَلِفَتْ أنْ تَتْبَعَ قِطارا حتّى يَصِلَ
إلى مشارفِ نهر
قُرْبَ غابة في بنسلفانيا.
لكنّ القطار الذي استقلَلْتُه يَوْمَ مجيئي إنّما كان ماضِيًا
صوب مراكش
(فمنها، أُكْمِل، عادةً، إلى قرية جدّي)
لذا، كان هنالك، عوض الصُّقور، شخصٌ
يُشبه المسيح
يُطِلّ عليّ، متصبّبا
عرقًاً، وباسماً، وَوَجْهُهُ يهتزّ
في الفضاء القريب منّي، خارج
نافذة القمرة”.
تقدّم قصيدة وساط مبارك (يوم جئت)، ولست متأكداً من تاريخ كتابتها، مثالاً عما دأب عليه وساط في دواوينه الأخيرة من رؤية شعرية يمتزج فيها خيالٌ ذو طبيعة سريالية بواقعية، هي أقرب إلى أن تتمثل التفاصيل اليومية. وهذه هي معظم موضوعات النصوص التي تشكّل العالم الشعري الخاص بوساط مبارك، وهو عالم متميز في الفضاء الشعري العربي المغربي. إنه عالم مشحون بما تخفيه القصيدة من طبقات تمتزج وتتداخل وتتركب مع بعض حتى يستحيل الفصل ما بينها، ويجب أن يستحيل هذا الفصل. طبيعة الشعر، طبيعة القصيدة، أية قصيدة ناجحة، هي في أن تقدم نفسها بكلية متماسكة، تذوب فيها العناصر وتنحلّ وتتوارى في تلك الطبقات لصالح الطبيعة العضوية للشعر، للقصيدة كمثال لتجسّد الشعر.
في الغالب تأتي هذه النصوص، عبر تجربة وساط مبارك، قصيرة وكثيفة ومشحونةً بتوتّر تعبيري لا يفرّط بالهدوء العميق الذي يفرضه جوّ القصيدة وحركة الحدث فيها. هذا الانسياب الهادئ للنص غالباً ما يسم كثيراً من نصوص الشاعر، حيث النصوص بمآلها الأخير هي الصورة الحية للشاعر كما هو عليها في الحياة.
(يوم جئت) قصيدة قصيرة إنما يجتمع فيها حدثان في حدثٍ ثالث، حدث القصيدة الخاطف أثناء زمنها المتواصل في طريق السفر بقطار بطيء متجهاً إلى مراكش.
هذا حدث مركّب من استعادات وتأملات المسافر ما بين لحظة ماضية، لحظة يوفرها الوقوف عند خبر لصحفيٍّ في هيرالد تربيون عن الشواهين الخمسة، ثم الانطلاق من هذه اللحظة إلى لحظة الحياة في قطار المسافر إلى مراكش، إنها لحظة رؤية (شخص يشبه المسيح).
خبر هيرالد تربيون، عن الشواهين الخمسة المتعقّبة لقطارٍ أميركي كان منطلقاً إلى غابة قرب بنسلفانيا، لا يُستذكَر في هذه القصيدة وإنما يحضر بتلقائية تتهادى كما الحركة البطيئة للقطار المغربيّ في مضيّه الهادئ نحو مراكش، حيث يتناظر العالم الداخلي لمسافر القصيدة مع العالم المحيط به وبالقطار في السفر إلى مراكش.
لا تنشغل القصيدة بمكان انطلاق القطارين؛ القطار الماضي لبنسلفانيا، بموجب الرواية الصحفية، وقطار القصيدة الماضي نحو مراكش، بموجب رواية المسافر. ما هو مهم في القصيدة هو زمن السفر، وزمن العالم الداخلي للمسافر، في الطريق. تبعاً لهذا فلا أثر للمكانين المقصودين. ما يحضر هو اعتمال وجدان المسافر ورؤيته لطريق سفره وتأمله لحالة السفر نفسها.
هناك، في الطريق إلى بنسلفانيا تتعقب الشواهين الخمسة القطار، بينما هنا يحضر فجأة وجه (شخص يشبه المسيح)، فيزيح مشهد الشواهين جانباً ليحلّ هو مكانها، ليس متعقباً، وإنما ناظراً ومحدقاً في وجه المسافر الماضي نحو قرية جدّه، عبر مراكش.
في المرّات التي أعدتُ فيها قراءة هذه القصيدة، وكانت بأوقات مختلفة، لم أستطع التحرر من فكرة أن وجه ذلك الشخص الذي (يشبه المسيح) كان وجه الجد، فيما كان المسافر إلى مراكش مستغرقاً طيلة الطريق في استعادة المكان الأول، مكان الطفولة وزمن الطفولة، ومن هذين المكان والزمن تطلّ صورة وجه الجد، بكل حنوِّ الأجداد، في القرى، ورقّةِ مشاعرهم ورهافة عنايتهم بالأحفاد. إنه وجهٌ لا يتعقّب قطار مراكش، كما فعلت طيور قطار بنسلفانيا، وكانت تأنس بتعقبها القطار، لكنه يظلّ لصق الزجاج خارج نافذة قمرة القطار المغربي متابعاً وحانياً وحارساً لمسافر آت إليه، إنها روح جدٍّ، روح مسيح.
يعتمد الشاعر (السرد الشعري) بهذه القصيدة كوسيلة للتعبير ولبناء نص شعري. التعبير عن تجربة سفر تستدعي السرد، فيما الطبيعة الشعرية للتأليف هي ما يهب النص الرؤية الشعرية والاستخدام الشعري للسرد اللازم لرواية واقعة القصيدة.
ومثل صورة فوتوغرافية يمكن أن تبوح بأكثر من أفق، بموجب مهارة عين المصوّر، فإن الطبيعة الشعرية لهذا النص، بموجب مهارة الشاعر، هي ما تأخذ إليها بالخلاصات الكثيفة لثلاث طبقات تتراكب في ما بينها بالقصيدة؛ حضور مشهد الشواهين، ومثول صورة وجه الشخص الجد شبيه المسيح، وتجربة المسافر نفسه في هذا السفر. إنها طبقات تتعاضد مع بعضها في خلق مشهد واحد غني بكثافته، وسلس بتدفقه، ورحب باحتمالاته، مشهد مسافر ماضٍ إلى ماضيه.