النزعة الذاتية للعصر الحداثوي

ثقافة 2024/10/09
...

  عبد الغفار العطوي  

 

التساؤل المنطقي والمعقول لدى الإنسان في عصرنا الحالي، هو: لم يشعر بأنّه غير قادر أن يكون حراً؟ ثمة إكراهات Compulsion تحول من دون تحقيق ذلك، تفرضها النزعة الذاتية للعصر الحداثي، باعتبارها نزعة شخصانيّة بحتة Personality وهي نزعة طالما وظّفها الإنسان نحو السير إلى وعي معنى الحرية، مع علمه أنه لن يحقق أي شيء مما أراد فعله من تساؤل على مستوى بقاء الشعور باللا جدوى، إزاء رؤية السلوكيات الصارمة المقيدة له، كي يدرك أنه لن يكون حراً، فـ "الرؤى السلوكية لمايكل هالزوورث وإنزيث كيركمان" تضع مفهوم الحرية في عين العاصفة، إذ لم نفهم لم نشعر بحاجتنا للتفكير إجمالاً المتجه لهذا الشعور في كتابه "هل نسير إلى الهاوية؟" يترجم أدغار موران الشعور بأزمة الحداثة التي جعلت من المجتمع العالمي يتصرّف على وفق تلك الرؤى السلوكيّة، وأن يضج القرن الحادي والعشرين بأزمات أخرى ما كانت تخطر على بال أحد، بحيث باتت فكرة "الحريّة" ضرباً من المجازفة، تعادل فقدان قيمة الإنسان لمعاني الحداثة التي شكلت منعطفاً حرجاً لإنسانويَّة الفرد الغربي، لأنّ تلك الحداثة شهدت منظورين مختلفين ومتناقضين في عالمه التقدم العلمي المذهل والسريع الذي جعل من هذا العالم مختبراً له في إنتاج كل الصناعات التدميريّة التي تهدد وجود الإنسان. بالمقابل هو يعيش مقيداً من دون حرية، بانتظار الكارثة، ويعزو "أدغار موران" السير نحو الهاوية إلى التطور العلمي والتقني المحيط بنا. لهذا ينبغي أن نغير الطريق، ونبدأ من جديد، وأن نصغي إلى العبارة التي قال فيها هايدغر "إنّ الأصل لا يوجد وراءنا"، الأزمة التي يراها موران هي أزمة معرفة تبنتها الحداثة، وأرادت أن تجعل قرننا هذا قرن الأنوار، حيث من الممكن أن يتحقق حلم كانط في أن تندمج الحداثة مع التنوير لخدمة الإنسان، بيد أن موران بحث في أسباب الحداثة، بدء من التساؤل عن كلمة "الحداثة" لأنّه على ما يبدو كانت أمراً مهماً وضرورياً تترتب عليه ملامح الأزمة.

و "Modernas" هي كانت مصطلحاً في اللاتينيّة المحرفة يدل على الشيء الطارئ قريب العهد وما كان الطارئ والجديد يعتبران بشيئين فائقين، ولهذا كانت الحداثة آنذاك، تحمل معنى مغايراً لما نعرفه عنها اليوم، وأن نلمس المعنى الغامض لها، فهذا بسبب المصطلح، خاصة في القرن العشرين حيث بدا إن ما يطلق الناس عليه "حداثة" ما عرف من رسم معالم تطوير عجيب للعلم والتقنية والاقتصاد والرأسمالية، والمجتمع المفتوح "المجتمع المفتوح وأعداؤه لكارل بوبر" وأكثر ما أعطى للحداثة بعداً إشكالويّاً تبنيها من قبل الرأسمالية، التي فاقمت من أزمة الحداثة باستغلالها السيء، حتى ربطت مصيرها بمصير الحداثة "الرأسمالية في طريقها لتدمير نفسها لباتريك ارتو ماري بول فيرار" حتى أننا بتنا نتوقع حدوث الكارثة.  أدغار موران يؤكد على أزمة الحداثة قد خلقت من عالمنا المضطرم أزمة إنسانويّة خانقة، لأنّه يعتبر مفهوم الحداثة  مفهوما كبيرا غامضا في حدوده، وإن جوانبها متكاملة ومتعارضة، ومن ذلك إن العلم المعاصر ينطوي على تعارض، مثلما بين كارل بوبر. ووسط كل تلك المخاوف التي تهدد ليس حريتنا فحسب، إنما تهدد مستقبلنا البشري، بل تلقي بذاك المستقبل المجهول المخيف والغامض نحو مستقبل لا بشري، حيث العالم الذي تسوده المجاعات والأوبئة والحروب النووية والجرثومية "مستقبلنا بعد البشري.. عواقب ثورة التقنية الحيوية لفرانسيس فوكوياما" وإن كان العالم كله يتعرض لاستغلال الحداثة، وما تبشّر به من حرية على جميع الصعد. وتعلن مجيء مستقبل واعد لحركة الأنوار "التنويرية الجديدة" فإنها في حركة حداثانيَّة تؤهل العالم لمستقبل ينزلق نحو الهاوية، آدريين كوخ في كتابها "آراء فلسفيذة في أزمة العصر لآدريين كوخ" تختار في الأجزاء الثلاثة من الكتاب مختارات من الفلاسفة والكتاب الفلسفيين، والفلاسفة الدينيين، والفلاسفة الإنسانيين كلهم اجمعوا على أن أسوأ ما يتعرّض له الإنسان الحداثي بعد منتصف القرن العشرين جملة من الأزمات المختلفة أدخلتها مساوئ الحداثة التقنية العلميّة، وبرعاية الرأسمالية العالميّة. ومن أبرز هذه الأزمات التساؤل عن مصير الحرية لدى الإنسان الحداثي الذي أراد الانقلاب عليها في ثورات معرفيّة مختلفة شذت أحياناً في روحانيتها ورومانطيقيتها، بابتعادها نحو ما بعد الحداثة وضد ما بعد الحداثة وما بعد النظرية وما بعد الثقافية العلمية "الدراسات الثقافية" لكن من دون جدوى، لماذا؟ لكن على ما يبدو أن مصير الحرية في خطر ونحن نغذ الخطى نحو نهاية العالم إثر أزمة الرأسماليّة التي قررت أن تأخذ عالمنا مع حداثته نحو الهاوية "نهاية كل شيء من الإنسان إلى الكون لكريس إمبي".  

 من هنا ندرك أن التهديد قائم في كل لحظة، لأهم  مصير "Universal freedom" والتي تعني الحرية الحداثانيَّة التي يترقّبها المجتمع العالمي، التي سمّاها أدغار موران "ما بعد الأنوار". 

ولقد عرف تاريخ الفكر الاوروبي مجيء عصر الأنوار، بعد ما كان من الانفجار الذي تعرّضت له النهضة في لحظة مركزيّة حاسمة اتسمت بالحواريّة الكبيرة التي استهلت مع عصر النهضة، أي قيام علاقة تعارضيّة وتكامليّة معاً، التي تقوم بين الإيمان والشك وبين العقل والدين، لكن هنا في قرننا الجديد لم توفق تلك العلاقة على الرغم من محاولات أقطاب الحداثة وأصحاب ما بعد الحداثة في توطين مساحة مناسبة من قوى التعارض والتكامل في إنتاج صورة ممكنة لحقبة ما بعد الأنوار. كان انحدار القيم البراجماتية والأخلاق الليبرالية الموروثة من البروتستانتية لثورة مارتن لوثر (1483- 1546) قد فقدت قدرتها في حقبة النيوليبراليّة، ولا يمكننا أن نتوقع أن يرى الإنسان الحريَّة. وعليه يضع ادغار موران في خاتمة كتابه بعد أن تحدث عن ظهور المجتمع العالمي وتحدياته في القرن الحادي والعشرين مثل الثقافة والعولمة والإرهاب الذي خيم في إيديولوجيته على رؤية العالم لعالمه. يصف الأمر الذي تعرّض له العالم وهو يسير إلى الهاوية بوصفه سيرورة  العولمة التي تعد أسوأ شيء، إذ صارت تحط من شأن التسابق صوب الهاوية، مع أنَّ ادغار موران لم ينحرف لمناقشة الآثار المخزية التي تركها الإنسان وراء، لم يفكر بخسارته المؤلمة التي أحسَّ أنها الأصل الذي يوجد أمامه، لكن لا يستطيع إنجازه. وأقصد به الحرية التي أجهزت عليها الحداثة بعولمتها وتقييد العالم.