د. نادية هناوي
إذا كان الأدب الفلسطيني منذ منتصف القرن الماضي إلى نهايته قد اتسم في أغلبه بروح المقاومة المسلحة والتصوير الإنساني للمآسي كما في قصائد سميح القاسم ومحمود درويش وروايات غسان كنفاني وأميل حبيبي ورشاد أبو شاور وغيرهم، فإن روح المقاومة مع مطلع القرن الحادي والعشرين صارت تتسم بطابع فكري متخذة من العقل دريئة، بها تهاجم الاستبداد والتزمت الفكريين فيستجيب لها من يتمتع بروح الانفتاح مؤمناً بإنسانية عالمية تضم الجميع مختلفين وغير مختلفين.
وهو ما تبنَّاه الكاتب الفلسطيني إلياس خوري في روايته( أولاد الغيتو) 2016 وفيها يستحضر السارد الذاتي” آدم” قصة وضاح اليمن ممثلاً بطريقة موته وحيداً في سبيل محبوبته “روضة” على الحلم الفلسطيني في استعادة الأرض من المحتل الصهيوني. وتظل الثقافة هي الحل، ومعها يصبح العالم منفحتاً في اختلافه وتنوعه. وتتسع المساحة الرومانسية لذاك الحلم فتشمل الذات الفلسطينية والآخر اليهودي المختلف معها( القارئ الذي سيجد في حكاية وضاح اليمن رمزاً فلسطينياً سيجد في هذه القصة استعارة إنسانية عن الفلسطينيين وعن كل المضطهدين في العالم بل عن اليهود أيضاً)
ويعجز السارد الذاتي اجتماعياً عن الإحساس بالمواطنة. والسبب تجربة حبه الفاشلة لدالية ( أريد الهرب من هذا المكان الذي يخنقني ونسيان هذه المرأة التي زال سحرها فجأة كأن لم يكن وضربني الأسى لا لأنني فقدتها حين مضت لا أعلم إلى أين بل لأنني فقدت نفسي.. وأنني دخلت في دوامة يأسي من نفسي وهي الدوامة التي سوف تقودني بعد ذلك بستة أشهر إلى الهجرة إلى أمريكا) ويتسع هذا المنظور السلبي ليشمل الوطن الذي ما عاد ممكناً استعادته فلقد ضاع، وصار التشتُّت والترحال الدائم في بلدان العالم قدراً مكتوباً على الفلسطيني (هكذا سأكتب وصيتي فأنا لا أملك قبراً في بلاد لم تعد بلادي كي أطلب أن أدفن فيه معانقاً أرواح أجدادي)
وإذا كان اتخاذ الثقافة سلاحاً لا يشتمل على عنف، فلأن الكتابة تحيل الصمت إلى كلام. فيصمم البطل على رفض الصمت وإعلان الكلام من دون غضب لأنه لا يريد أن يكون مصيره كمصير وضاح الذي ما نفعه صمته في الإعلان عن احتجاجه( سكت الشاعر لأنه أراد أن يحمي حبيبته فصار صندوق موته الذي قبره فيه الخليفة الوليد بن عبد الملك هو صندوق حبه) وتظل الكتابة سبيلاً مهماً به يظل المرء بعيداً عن النسيان والاندثار( هكذا أكتب وصيتي فأنا لا أملك قبراً في بلاد لم تعد بلادي كي أطلب أن أدفن فيه، وبدل أن أعانق أرواح أجدادي سوف أعانق في هذا النهر أرواح الغرباء) وكل ما يكتبه السارد هو عبارة عن معبر يوصله إلى ذاته فلا حاجة من ثم إلى الترميز أو الغموض( وحدتي كتابتي وستكون عنواني الوحيد لم أنجح في كتابة الرواية التي أريد فأنا أردت كتابة استعارة كبرى استعارة كونية صنعها شاعر عربي مغمور عاش في العصر الأموي ومات كما يموت الأبطال وفجأة اكتشفت أن الاستعارات لا تجدي) والمقاومة عبر اتخاذ الثقافة سلاحاً تعني المجادلة الفكرية التي تجعل السارد البطل يعبر عن رؤاه بكل حرية، غير متردد ولا متوان من أن يصف الإسرائيليين بالأصدقاء، منتقداً إياهم على الطريقة التي بها استغلت الصهيونية العالمية حادثة( الهولوكوست) كي تكسب تعاطف الرأي العام معها( كنت أشعر بالاختناق كلما قرأت في وجوه بعض الإسرائيليين من أصدقائي أو في النصوص الإسرائيلية ازدراءً أو نقداً ليهود أوروبا الذين سيقوا إلى الذبح كالأغنام. أنا اعتقد أن تحولهم إلى هذه الصورة كان بطولة وأن النقد الأجوف الموجه إليهم يدل على حمق من يعتقد أن القوة ..سوف تدوم إلى الأبد بل ربما كان هذا الازدراء هو العلامة الأولى للعنصرية التي سوف تتفشَّى كالوباء في المجتمع السياسي الإسرائيلي)
وتحمل الحرية الفكرية السارد على نقد الذات أيضاً ملقياً باللوم على الفلسطينيين ومنتقداً العالم الذي يسكت على جرائم الاحتلال، يقول وهو في معرض الإشارة إلى رواية( رجال في الشمس) لغسان كنفاني:( السؤال الحقيقي ليس عن خرس الفلسطينيين بل عن صمم العالم عن سماع صراخهم)
إن هذا التسلح الكوني بالثقافة واتخاذ الثقافة أداة كونية للمقاومة هو أمر عام شمل الرواية الفلسطينية الراهنة تقريباً، ودفعها إلى تناول قضايا الإنسان والوطن وطرح الرؤى الفكرية بعمومية تتعدى الانغلاق على الذات الفلسطينية التي تقتصر الإشارة المباشرة إليها على مواضع محددة في الرواية كالاستهلال أو الإهداء، وهو ما أعطى لكتّابها طابعاً كونياً.
وهذا ما لم تستطع بعض الروايات العربية غير الفلسطينية أن ترتفع بنفسها وتمثله بطريقة فنية كالذي فعلته الرواية الفلسطينية، ومثالنا على الرواية العربية( مصابيح أورشليم) التي كانت تناصاتها الكثيرة مع الرواية الإسرائيلية محملة بوجهة نظر أحادية مضادة، تزدري العرب قاطبة وترى في المقاومة الثقافية فعلاً سلبياً. ولم يجد الكاتب سبيلاً للتعبير عن هذه النظرة سوى بالميتاسرد والتناص فكان أن تركزت وجهة النظر الايديولوجية على القدس بصورتها الأورشليمية كشوارع وأزقة وحارات تاريخية، تبدأ من جديد بيهود الأشكناز والسفارديم وبولونيا وليتوانيا وفرنسا واليمن والحبشة مع قصدية واضحة في تكرار هذا التناص الشعري(ازحفوا لقد وصلنا وصلت جنود يهوه إلى مبتغاها راياته راياتكم فليحمي الهيكل ومن لا يعجبه فليتخوزق من مؤخرته .. لا تسالوا من هو المسؤول عن موت أكثر أحبابكم في الهولوكوست كل شخص ليس منكم هو من أعدائكم) وكان بإمكان الكاتب أن يفيد من سيرة إدوارد سعيد فيجعل منها نصّاً مفتوحاً على العالم يفضي بالرواية إلى رؤية كونية، كان سعيد قد اتخذ منها سلاحاً ثقافياً، وبسببها تعرض إلى معاداة الغرب. ومع ذلك، لم يكف البتة عن تأكيد كونية هويته الفلسطينية، مكرراً القول: إنه شخص فلسطيني بلا جنسية وخارج المكان.