رواية (الرأي المقابل).. عندما تلتقي الصحافة بالأدب

ثقافة 2024/10/09
...





ترجمة: جودت جالي






تبدأ رواية (الرأي المقابل) The op-eds novel أو (الرأي المختلف أو الرأي الآخر) للروائي ديكوير ﺴﻳﮕوين بإحصائيَّة مفادها أنَّ ثلث كُتّاب الأعمدة في الصحيفة الإسبانيَّة الرئيسيَّة إلباييس (البلد) هم روائيون، يعني أكثر من الذين في لوموند (العالم) الفرنسيَّة أو نيويورك تايمز الأميركيَّة واللتين لم توظفا روائياً- كاتب عمود منذ عشرين عاماً. لماذا احتضنت إلباييس الروائيين بهذا الاهتمام؟ يتتبع ﺴﻳﮕوين آثار هذه المسألة رجوعاً الى القرن التاسع عشر ليبرز لنا شخصياتٍ أمثال كاتب المقالات ماريانو خوزيه دي لارا، والفيلسوف خوزيه أورﺗﻴﮕﺎ يا ﮔﺎسيت، اللذين ظهر لهما عملان مهمان في السول (الشمس) هما (اسبانيا اللافقاريَّة) و(ثورة الجماهير) وكيف عاد العملان للبروز بعد الديكتاتوريَّة.تبدأ رواية (الرأي المقابل) The op-eds novel أو (الرأي المختلف أو الرأي الآخر) للروائي ديكوير ﺴﻳﮕوين بإحصائيَّة مفادها أنَّ ثلث كُتّاب الأعمدة في الصحيفة الإسبانيَّة الرئيسيَّة إلباييس (البلد) هم روائيون، يعني أكثر من الذين في لوموند (العالم) الفرنسيَّة أو نيويورك تايمز الأميركيَّة واللتين لم توظفا روائياً- كاتب عمود منذ عشرين عاماً. لماذا احتضنت إلباييس الروائيين بهذا الاهتمام؟ يتتبع ﺴﻳﮕوين آثار هذه المسألة رجوعاً الى القرن التاسع عشر ليبرز لنا شخصياتٍ أمثال كاتب المقالات ماريانو خوزيه دي لارا، والفيلسوف خوزيه أورﺗﻴﮕﺎ يا ﮔﺎسيت، اللذين ظهر لهما عملان مهمان في السول (الشمس) هما (اسبانيا اللافقاريَّة) و(ثورة الجماهير) وكيف عاد العملان للبروز بعد الديكتاتوريَّة.


تأسست إلباييس في أيار 1976 خلال تحول اسبانيا الى الملكيَّة البرلمانيَّة وبعد ستة أشهر من موت الجنرال فرانكو، وتحت رئاسة تحرير خوان لويس سيبريان أصبحت الجريدة ليست مراقبة فقط بل ومشاركة أيضاً في الديمقراطيَّة الوليدة، ساعية خصوصاً خلال أعمدتها، أو خلال اﻠ(op-eds)، لتمكين الحوار ودعم قيم جديدة في اسبانيا ما بعد فرانكو.

توجه سيبريان الى الكُتّاب، شعراءً وروائيين، بضمنهم ﮔﺎبريل ﮔﺎرسيا ماركيز الذي كان أصلاً صحافياً متمكناً في كولومبيا، والكاتب الكوبي ﮔﻭييرمو كابريرا انفانته، وروزا مونتيرو، التي لا تزال تسهم بكتاباتها. برزوا كشخصياتٍ شبه سياسيَّة، غير منتمين ولكنهم ذوو أصوات، مانحين الصوت للضمير الجمعي الذي كان مخرساً.

آمن كُتّابٌ مثل أنتونيو مونيوز مولينا بأنه لا يجب على المثقفين فقط تثقيف القراء بل ومنحهم أيضاً حسَّاً أخلاقياً، وهي مهمَّة حسَّاسة بعد عقودٍ من الديكتاتوريَّة. لم يتهيبوا كجماعة من المناوشات التي غالباً ما تدور في الصحافة. وظفت المودينا ﮔﺭاندس عمودها للاستخفاف بماريو فارﮔﺎس يوسا الحاصل على نوبل لخيانته “الولاء للحزب”، وخافيير مارياس اتهم أنتونيو مونيوز مولينا ﺑـ “النسبيَّة الأخلاقيَّة”.

بعد الانتخابات العامَّة في العام 1982 والتسليم السلمي للسلطة الى حزب العمال الاشتراكي الإسباني أصبحت إلبايس بشكلٍ متزايدٍ حيزاً إنتاجياً ﻠـ”الروائي المفكر” بالضبط كما تقوم أكاديميات كرة القدم الإسبانيَّة الشهيرة لتنشئة اللاعبين الجيدين. يلقي ﺴﻳﮕوين الضوء على شخصياتٍ بارزة في هذه الحركة هم خافيير سيركاس، وخافيير مارياس، ومونوز مولينا، والمودينا ﮔﺭاندس، وفيرناندو آرامبورو.

أصبحت أقسام الرأي مختبراً للكتابة التجريبيَّة التي تجمع الأخبار والأفكار والأسلوب الأدبي، ويؤكد مونوز مولينا أنَّ “العمود نوعٌ أدبي”. في هذه الأثناء صاغ الكُتّاب أيضاً تقنياتٍ جدليَّة أنجزوها في أعمدتهم ووظفوها في رواياتهم. كتب مارياس عن شرعيَّة الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة، والإرهاب في الباسك، في رواياته وفي جريدة إلبايس، بينما ضببت رواية سيركاس (جنود سالاماس) 2003 الحدود بين الصحافة والأدب القصصي.

أعطت هؤلاء المفكرين رواياتُهم شرعيَّة أدبيَّة وصحافيَّة ورسختهم بوصفهم مراقبين أصلاءً لتحول إسبانيا من الديكتاتوريَّة الى الديمقراطيَّة، بدؤوا يرون الفن القصصي كما يقول ﺴﻳﮕوين “مكاناً حسم النقاط مع الزملاء المفكرين، صانعين مطالب تاريخيَّة تأمليَّة ومشاريع أنصار سياسيَّة، وفي الوقت نفسه جربوا حدود هذا النوع من الكتابة وشكله وأسلوبه”. إنَّ هذا الاندماج لم يثر السرد القصصي فقط بل ووسع مدى رؤية وأثر أعمالهم الأدبيَّة.

واحدة من النتائج الرئيسة من ذلك المزج النوعي هي التوتر بين البحث التاريخي الصارم، القائم على المواد الارشيفيَّة، وبين حركة الذاكرة الإسبانيَّة التاريخيَّة، المستندة الى التواريخ الشفاهيَّة. هذا التوتر الذي خلقته عقودٌ من رقابة النظام يثير التاريخ الموثق ضد الذاكرة الجمعيَّة، وزاده تفاقماً بين الذهنيَّة الباقية للرقابة غير الراغبة بتسجيل الحقيقة وبين الأسرار المفتوحة من الماضي. استخدم مارياس مثلاً عموده ليهاجم الحائز جائزة نوبل كاميلو خوسيه ثيلا لتعاونه مع نظام فرانكو.

إنَّ روائيي الرأي المقابل غمروا أعمالهم في قلب الجدالات المعاصرة جاهدين لتشكيل الخطاب الجماهيري لزمنهم، فهم لم يؤرخوا للحرب الأهليَّة فقط بل واستكشفوا الذكريات الماثلة والمتناقضة للصراع، الانتقال الزلزالي من النظام الفرانكوي الى الديمقراطيَّة، والفشل الدرامي لانقلاب 1981. كان هدفهم الواضح هو إعادة تشكيل القصص التي رواها الاسبانيون لأنفسهم عن تلك الأوقات بالغة الأثر.

إنَّ رواية (الرأي المقابل) سردٌ ملتزمٌ وجيدُ البحث ومكتوبٌ بذكاءٍ حادٍ عن المنظر الأدبي والصحافي خلال فترة التحول الاجتماعي التطوري، مظهراً كيف أنَّ الربط الأدبي يغذي مخيلة سياسيَّة جديدة وبالعكس، وهذا العمل كذلك دراسة أصيلة ومرنة تدفعنا الى إعادة النظر في افتراضاتنا المسبقة في الصحافة والأدب وأدوارهما، متحدياً الحدود التي تفصل بينهما ويضع موضع المساءلة بناهما وجمالياتهما الموطدة. إنْ كانت إلبايس تقيّم الروائيين بوصفهم كُتّابَ أعمدة منظمين فلماذا لا تفعل الصحف الأخرى؟ إنَّ هذا تضييعٌ للفرص.

*** 

Etan Nechin, The op-ed novel. A literary history of post-Franco Spain, Becquer Seguin. LTS august 2, 2024.