أ.د. عامر حسن فياض
في عراق اليوم وصلنا إلى مرحلة انكار متبادل للتمايز الثقافي والديني، ولم يتم الانتقال إلى مرحلة الاعتراف المتبادل بهذا التمايز، والذي يجسد عبر خضوع كل طائفة في شؤونها الدنيوية إلى تقاليدها وأعرافها الدينية، ولا يزال هذا الانكار هو أساس الحوار السياسي من اجل اقامة وحدة وطنية، سواء كان ذلك على صعيد مسألة الأقليات الدينية أو الأقوامية، واصبح التساوي متجسداً في فقدان الهوية وبناء الدولة العصرية، وهذا ما يحصل في العراق المعاصر. فالصراع على بناء الدولة العراقية هو في جوهرة صراع على هويتها ومن يكسب هذا الصراع هو في النهاية سيكون الاقدر على تحديد أيديولوجية الدولة ومن ثم هويتها. وطالما أن الهوية العراقية قد اتسمت بالسيولة التامة في ظل الاحتلال الامريكي، فانها يسرت الذهاب إلى ملاذات أخرى بديلة للهوية، مما أدى إلى انتعاش الهويات الفرعية من مثل القبلية – الاثنية – الطائفية - الجهوية المناطقية... الخ.
كانت وستبقى الإجابة عن سؤال تاريخ المستقبل ضرورة قائمة، طالما أن الشعوب الحية تستحضر تاريخها لا لتعيش فيه وتعتاش عليه، بل تستحضره لتغادره إلى مستقبل أفضل.
ليعلم العقلاء أن التاريخ الحقيقي ماكر عندما يترك، بمكر، المجال للمؤرخ المزيف أن يكتبه بما يحلو له أو يحلو للسلاطين.. وليعلم المؤرخون إن العقل ماكر عندما يُغيَّب أو يغيب، بمكر، ويترك لأعداء العقل التصرف في مصير البشر والحجر داخل الأوطان وخارجها.
في تاريخ العراق الحديث رأينا أن الانجليزي فهم العراق وأحتله ثم فهمه وخرج منه، بينما في تاريخ العراق المعاصر رأينا أن الأمريكي لم يفهم العراق واحتله ولم يفهم العراق وخرج منه.
نعم الانجليزي دخل العراق وأسهم وربما شجع وبأضعف الإيمان أن يعرقل وضع دستور بلا ألغام وتشكيل برلمان شغال فعال، وتمكين تعددية سياسية منظمة بقوانين، وتحسين أداء جيش وشرطة لدولة عراقية حديثة. بينما الأمريكي دخل العراق واسهم وربما شجع وفي أضعف الإيمان لم يعرقل وضع دستور ملغم، وتشكيل برلمان ضعيف الأداء لوظائفه السياسية والتشريعية والرقابية، وتمكين تعددية سياسية حزبية منفلتة غير منظمة بقوانين، وعدم إعاقة إنشاء جيش وشرطة محاصصة لكيان أو لكيانات سياسية داخل العراق.
إن الانجليزي خرج من العراق ليترك وراءه حركة وطنية استقلالية عراقية متماسكة وروح عراقية عالية، بينما الأمريكي خرج من العراق ليترك وراءه ارهاباً شرساً ومحاصصة مقيتة ومنسوبا عاليا للعدمية الوطنية.
غير أن اللوم على من لم يفهم وعلى الذي لا يريد أن يفهم العراق من البرانيين، بل اللوم كله على من لم يفهم ومن لا يريد أن يفهم العراق من الجوانيين. أما مفتاح مفاتيح فهم العراق فأنه سيكون بيد عراقي يفكر ويعبر عما يفكر بشجاعة ليؤكد أن العراق لا يستحق ماضيه الديكتاتوري، ولا يستحق حاضره لأنه يستحق مستقبلا أفضل من حاضره وماضيه، أي مستقبل لعراق يحتضن عراقيين مواطنين لا رعايا، ولمجتمع عراق عصري وليس تقليديا، ولنظام سياسي عادل.
وبالانتقال إلى موضوع العراق ما بعد الديكتاتورية نجد أنه يقف في مرحلة انتقال إلى التحول الديمقراطي ولم يصل بعد إلى مرحلة التحول الديمقراطي. وكذلك لم يصل إلى المرحلة الديمقراطية، فعلى عكس ما يتوهم البعض فإن الديمقراطية لا تؤدي إلى نفسها بشكل أتوماتيكي. وان تجربة بلدان العالم المتقدمة ديمقراطياً تثبت لنا أن النظام الدستوري المدني سبق النظام الديمقراطي إلى الوجود بسنوات طويلة. فلم تصبح أنظمة أوروبا الغربية ديمقراطية، إلا بعد مرحلة انتقال دستوري مدني، ثم مرحلة تحول ديمقراطي مدني، ثم مرحلة دول ديمقراطية مدنية. (لاحظ أن المدنية مرافقة لكل المراحل). فالأساس هو دولة الانتقال الدستوري المدني، وهي دولة قوية مع المواطن، وليست دولة قوية ضد المواطن، ولا دولة هشة تحت رحمة فرد أو جماعات. إنها دولة المؤسسات. إنها الدولة المدنية الحديثة.
في عراق اليوم وصلنا إلى مرحلة انكار متبادل للتمايز الثقافي والديني، ولم يتم الانتقال إلى مرحلة الاعتراف المتبادل بهذا التمايز، والذي يجسد عبر خضوع كل طائفة في شؤونها الدنيوية إلى تقاليدها وأعرافها الدينية، ولا يزال هذا الانكار هو أساس الحوار السياسي من اجل اقامة وحدة وطنية، سواء كان ذلك على صعيد مسألة الأقليات الدينية أو الأقوامية، واصبح التساوي متجسداً في فقدان الهوية وبناء الدولة العصرية، وهذا ما يحصل في العراق المعاصر. فالصراع على بناء الدولة العراقية هو في جوهرة صراع على هويتها ومن يكسب هذا الصراع هو في النهاية سيكون الاقدر على تحديد أيديولوجية الدولة ومن ثم هويتها. وطالما أن الهوية العراقية قد اتسمت بالسيولة التامة في ظل الاحتلال الامريكي، فانها يسرت الذهاب إلى ملاذات أخرى بديلة للهوية، مما أدى إلى انتعاش الهويات الفرعية من مثل القبلية – الاثنية – الطائفية - الجهوية المناطقية... الخ.
وهذه المهمات الخاصة بدولة المرحلة الانتقالية (أي دولة المؤسسات والقانون) تتضمن ضمان الأمن والاستقرار وبناء المؤسسات على أسس ديمقراطية، واعتماد آليات الإسراع في استكمال السيادة وصيانة الاستقلال وتصفية الآثار الديكتاتورية القديمة والجديدة، وإنهاء مظاهر المحاصصة والتميز القومي والاستبعاد الطائفي وإنهاء التهجير والنزوح القسري وعودة المهجرين والنازحين واحترام التعددية والشعائر الدينية وإعمار الوطن. وإن تحقيق دولة مستقرة تكون معبرة عن فئات الأمة كلها ترتبط هنا بقيام الديمقراطية السياسية القائمة على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
هنا نصل إلى نتيجة تفيد بان استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون (الدولة المدنية) تمثل مستدعى للدخول في مرحلة التحول الديمقراطي في العراق المعاصر. بمعنى أن التحول الديمقراطي يقتضي استكمال بناء الدولة المدنية بوصفه (أي هذا الاستكمال) شرطاً وجودياً لازماً للتحول. بيد أن هذا الاستكمال لا يؤدي أوتوماتيكياً إلى التحول الديمقراطي، ولكن أي تحول ديمقراطي لا يتم دون استكمال بناء دولة المؤسسات وأن مفتاح الدخول إلى دولة المؤسسات هو الحكم الصالح.