د . سعد عزيز عبد الصاحب
في مسرحية "كواليس" يبدأ فعل الكتابة للمؤلفة الاء حسين من منطلق تيار الوعي كطريقة للسرد وكأننا امام أحد سرديات فرجينيا وولف في "السيدة دالوي" أو "غرفة يعقوب" فالبوح الذاتي في الكتابة ينتصر على النسق "البوليفوني" بأصواته المتعددة على الأقل في بداية النص الدرامي ليصبح "الذاتي" طريقا لمآلات جمعية "حوارية" في مناقشة مشكلة العلاقات العاطفية وانفراط عقدها المبكر، في ضوء كاتبة ومخرجة تقيد بفيلم تسجيلي/ درامي افتراضي حلقات من حياتها مع ممثل نجم "ابن جلدتها" يتعرض الاخير للاغتراب النفسي والاضطهاد الهوياتي وناستلوجيا مرضية متفاقمة فيقرر العودة إلى وطنه بأعذار ومبررات اعتقدتها زوجته مبررات واهية فتصر الاخيرة على البقاء في مهجرها ويعود هو إلى وطنه الأم. تحاول شخصية المخرجة "مثلتها آلاء حسين" أن تقدم مقاربة "سايكولوجية" بإعادة الزمن الماضي للحياة بين الزوج والزوجة في المهجر أمامها على شاشة السينما وخشبة المسرح وتلعب دور الزوجة في الفيلم المقترح الممثلة "شاهندة" وكأننا امام هاملت شكسبير وهو يعيد ترتيب جريمة مقتل أبيه أمام عمه القاتل ليلتذ ويتعرف على تأثير الجريمة على صفحة وجهه وفلتات لسانه في مشهد المسرحية الشهير بتقنية مسرح داخل مسرح بهذه المقاربة "الفرويدية" تقوم المؤلفة بالحلول مكان الممثلة التي تعترض على وجودها في لعبة "سادية" فتغادر المكان، ولتدخل المخرجة/ المؤلفة في لعبة المكاشفة مع الزوج "مثله سعد محسن" لتفتح عليه رياح الماضي وأوراقه وما قام به من خطايا وذنوب من وجهة نظرها، ونكتشف نحن كمتلقين بأننا أمام لعبة مسرحية قادتها المخرجة لتفضح الجميع "الزوج" و"الزوجة" و"الوسط الاجتماعي" و"الوسط الفني" بطريقة لا تخلو من الملحمية البرشتية والتوجيهية والوعظية المباشرة في أحيان لايصال رسالة العرض التي تحكي ثيمتها وترمز للصبر والتريث والحكمة في العلاقة بين الازواج في اتخاذ القرارات المصيرية الكبرى لإدامة الحياة والأسرة، اما على صعيد التجسيد الاخراجي للعرض فقد ادخلنا المخرج اكرم عصام بفضاء "مؤسلب" تجريدي إلا من "كنبه" و "طاولة" للكتابة وكرسي وصناديق حفظ الكاميرات و"مايكات" صوتية و"مزهرية" تحوي نبتة خضراء اللون وشاشتي عرض سينمائية أوحت لنا بالانشطار البصري بين الصورة المسرحية والسينمائية في وحدة "هارموني" بصرية وسمعية أدت دلالتها الجمالية باِمتياز وكأننا في بلاتوه تصوير وغرفة معيشة يومية شكل عليها الممثلون ميزانسينات حركية تراوحت بين السكون والحركة بين التناظر والتنافر وإنتاج ثنائيات ادائية مواجهة للمتلقي بلغة سهلة وبسيطة غير مقعرة ويومية في أحيان أخرى حازت على تفاعل المتلقي فأضحكته وصفق لها ولاداءاتها الحيوية والمؤثرة، سألت نفسي ما الهدف من تقديم هذه المسرحية؟ وهي تحكي ارهاصات وهواجس ليست جمعية وقد لا تشكل ظاهرة حرية بالتجسيد المسرحي.. ولكن أليس كتاب العبث واللامعقول كتبوا في الذاتي والفنتازي والخاص وانطلقوا به نحو الموضوعي ومن ثم الشعبي؟ اعتقد أنها مسرحية "توجيهية" عليها أن تخاطب الطبقات الشعبية، ولابد أن تكون بلغة تفهمها هذه الطبقات، على أن لا يخلو العرض من الجوانب الفكرية والجمالية التي ساعدت على تكوين صورة نظيفة وخالية من الثرثرة البصريّة التي اعتاد عليها مسرحنا العراقي منذ سنين بحجة الترميز والتشفير، جاءت مساقط الضوء للسينوغراف علي السوداني العمودية والجانبية موائمة لجو بلاتوهات التصوير فكانت الاجهزة جزءا من الفضاء السينوغرافي، وليست طارئة عليه لتكشف بأحزمتها الضوئية المركزة أغوار النفس البشرية باِنتقالات مدروسة وهادئة من العتمة إلى النور وكشف للوجوه التي خبئت داخلها عديد الأسرار والخبايا وبتشويهات مقصودة كشفت مقاصد المعنى وتأويلاته التي انفتحت على المشكلات والعلل الاجتماعية وقضايا الهجرة والغربة بأشكالها المعاصرة. وجاء الاداء التمثيلي ليكمل جودة هذا العرض "السايكودرامي" بفواعل ممثلين خبروا وقوفا طويلا على خشبات المسارح لم تغرهم غوايات التلفزيون واضواءه الباهرة، ناهضين برسالة العرض التي عرفوها بفعل خبراتهم الطويلة في الهجرة فمعظمهم قد مارس فعل الرحيل عن الوطن والانغماس في حياة الأوطان الجديدة، خرج الينا الاداء التمثيلي مؤطرا بالأسلوب "التقديمي" الذي يحتاجه العرض. فجاء اداء الممثل سعد محسن رشيقا واضحا وتلقائيا ملما بأبعاد شخصية الممثل النجم وكيف ينطق ويتصرف ذلك الزوج الذي لم يتطابق مع حياة المهجر والذي تتغلب مصلحته الشخصية على مصلحة العائلة فيفرط بها ويتركها، وكذلك لا يمكن أن ننسى أداء الممثلة المقتدرة آلاء حسين وهي تحمل على اكتافها مسؤولية كتابة النص وتأدية أحد ادواره حيث كانت العين المراقبة بوصفها مخرجة الفيلم الافتراضي على الخشبة والشاشة من جهة وكونها جزءا من خارطة الاداء العام فهي المتحكم بخيوط اللعبة الدرامية وهي من تحل عقدتها، أطلت بصوت دافئ وهادر في نفس الوقت ذكرنا بفواعلها المسرحية الاولى في مسرحيات "العباءة" و"تفاحة القلب" و "عرس الدم" و"ذهان" وغيرها وكان الاخراج ذكيا في جعله للممثلة آلاء حسين تقوم بسقي المزهرية على مدار العرض وصولا إلى لحظة الختام حين انتقلت بها الممثلة إلى الجزء الامامي من الخشبة وكشف عنها بمساقط الضوء وكأنها أشعة الشمس في دلالة على ديمومة الحياة وأن على الإنسان أن يداري ويباري تلك النبتة "العائلة" كي تعيش وتبقى شامخة، وأخيرا لا يمكن اغفال الجهد التمثيلي للممثلة الشابة "شاهندة" وهي تسعى بجد لكي يكون لها اسم ورصيد في المسرح الملتزم بحضور لافت وأداء رصين خال من الادغام اللفظي والتوقيت الحركي الدقيق في دخولها وخروجها وقوة ثورتها ورفضها. وجاءت خاتمة العمل لتبقي المرأة وحيدة على خشبة المسرح وقد انحاز العرض وفلسفته لها ولخطابها على أنغام موسيقى أغنية فيروز "بيذكر بالخريف" وهي أغنية تعتمد تحولات الفصول، وصولا لفصل الخريف الذي تذبل فيه الأوراق والحكايات والأغاني وهي أقرب شيء كناية عن الوحدة والاغتراب، وفيها صوت حواري مع الآخر الغائب في إشارة لوحدة المرأة في ختام العرض.