عبدالأمير المجر
أواخر سبعينيات القرن الماضي، نشرت إحدى الدوريات العربية لقاءً أو نقلت تصريحاً للقيادي البارز في حزب الكتائب بشير الجميل، وقد وضعت على الغلاف صورة له مع خلاصة اللقاء أو التصريح الذي يقول فيه: ( شبعنا كذباً ودماً، نريد وطناً).. الرجل قتل في العام 1982 بعملية إرهابية بعيد انتخابه رئيساً للبنان، قبل تسلم مسؤولياته، وقبل أنْ يحصل هو وغيره على الوطن الذي أراد، والى اليوم!
مرّ أكثر من أربعين عاماً على قراءتي العابرة لتلك الجملة، ولم تبارح ذاكرتي، لسبب بسيط، هو اني أعدت قراءة الحدث اللبناني أكثر من مرَّة، ومن مصادر متعددة، وخلصت الى رؤية خاصة، مفادها أنَّ بعض اللبنانيين، ومنهم حزب الكتائب، لديهم قناعة راسخة من أنَّ الحكام العرب غير جادين في مسألة تحرير فلسطين، وأنَّ انتقال فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن الى لبنان بعد أحداث أيلول من العام 1970 كان بمثابة إلقاء بكرة من النار الى الداخل اللبناني الذي سيجدُ نفسه يدفعُ استحقاقات قاسية، تتمثل بالمواجهة غير المتكافئة مع إسرائيل بعد أنْ يصبح ميداناً لصراعٍ طويلٍ ومدمرٍ..
ما يؤسف له أنَّ هذا التصور كان صحيحاً، ولبنان الذي اختلف أهله بين مؤيد للوجود الفلسطيني ورافضٍ له، دخل في نفق حرب أهلية مرعبة، وقف وراءها الحكام العرب أنفسهم، حين توزع دعمهم بين الفرقاء، وكان هذا أثناء وجود منظمة التحرير في لبنان، ليدخلوا بلاد الأرز نفقاً مظلماً، حتى باتت لقمة سائغة للجيش الإسرائيلي الذي اجتاح بيروت في العام 1982 وأخرج منظمة التحرير منها، فيما كان الحكام العرب يتفرجون، بل ينتظرون إنهاء ارييل شارون مهمته التي أشعرت كل عربي
بالإهانة.
تعيشُ منطقتنا، ومنذ عقد من الزمن، فصلاً مرعباً لم تشهد له مثيلاً من قبل، دخلته بخدعة كبيرة، اسمها الديمقراطية، بعد أنْ عجزت الأنظمة عن توفيرها للشعوب، مثلما عجزت عن تحقيق تكامل اقتصادي نسبي، يوفر للناس الحد المقبول من الحياة الكريمة، فكانت شعارات الحرية والديمقراطية هي القناع الذي استثمره الطامحون للسلطة ووظفه المتربصون بالمنطقة، وهم الكبار المتنفذون في العالم، ممن يريدون لمنطقتنا الغنية بثرواتها، أنْ تبقى تحت السيطرة ما دامت لديهم القدرة على ذلك
، ولعلهم يمتلكون هذه القدرة ويعرفون كيف يصرفونها بذكاء، ومن أبرز آيات هذا الذكاء انهم دفعوا باعداء الحرية والديمقراطية، من الاصوليين والشوفينيين والعرقيين الى الواجهة، ليداخلوا الأوراق، وليجد الجميع أنفسهم وسط أزمات متوالدة ومستفحلة، يصعب إيجاد حل لها، من دون تدخل (دولي)، ما يعني أننا أصبحنا تحت الوصاية، والانتداب بشكل من الأشكال، وإلاّ ماذا نسمي مبعوثي الأمم المتحدة، الذين يتوزعون بين أكثر من بلد عربي ليشرفوا على إعادة بناء الدول من جديد؟!
حكام المنطقة الآخرون، ممن أرعبهم هذا الخطر الداهم، بدلاً من أنْ يبحثوا عن حلول واقعيَّة، صاروا يعملون على إدامة زخم هذا الخراب ويبررونه بخلافاتهم التي استعصى حلها عليهم، بعد أنْ كبلوا أنفسهم بأوهام عقائديَّة وسياسيَّة ومصلحيَّة جعلت الشعوب عالقة معهم، ولا تدري أي مستقبل ينتظرها بعد أنْ أصبح الشرق الأوسط بأكمله ميداناً مفتوحاً لصراع متداخل؛ عالمي وإقليمي، ومحلي في كل دولة، حيث انفلتت العصبيات الدينية والطائفية والعرقية من عقالها وباتت في ذمة المتحكمين الكبار ممن يستخدمون هذا الفائض العاطفي لمصالحهم السياسية التي لا تعرف العاطفة ولا تحتكم الى قيم أي دين أو طائفة في
الكون.لقد قل الخبز بعد أنْ كان قليلاً وثارت الشعوب لتجعله أكثر! وضاقت مساحة الحريات الضيقة أصلاً، بعد أنْ باتت رقاب الناس تحت رحمة سكاكين الأمراء والخلفاء الجدد، وازداد الخوف واتسعت مساحة الجهل والظلام، ومع كل هذا ما زال كثيرون يتحدثون عن ربيع الحرية والديمقراطية وحقوق
الإنسان!
لكنَّ صرخة مكلومة باتت تُسمع في كل المنطقة وتعبر عن غالبية أهلها، صرخة ستغدو أقوى وأعلى، تقول؛ شبعنا كذباً ودماً، نريد أوطاننا....!! فهل من مجيب؟.