حازم رعد
لا اعتبار لأية فلسفة ما لم تواكب الواقع والراهن، ستكون مجرد "ثرثرة لا طائل منها"، لأن فلسفة الفلسفة تنظر في المشكلات الحاضرة وتعمل على ايجاد حلول لها، ووضع مقاربات تمكنها من تحليلها والوقوف على اسبابها ومكامنها التي اسهمت بإيجادها.
ولذا يقال عن مثل هذه الفلسفة بأنها "تقدمية" تسعى بكل ما تستطيع لأن تكون جزءً من التغيير والحلول المحتملة، بينما الفلسفة الأخرى وهي التي تتنكر للواقع وتنأى بنفسها عنه، وتضطلع بعلك المفاهيم مع الاحتفاظ بمساحة عزل مع الواقع، فهي فلسفة "رجعية" لا يلام الناس لو ابتعدوا عنها ولم يهتموا لها.
يشير مجمل تاريخ الفلسفة إلى فكر متفتح يتقبل الآخر ولا ينفيه، ويعترف بحق الجميع في التفكير وإبداء الرأي والاعتماد على المنطق والعقل كأساسين لقبول الأفكار ونقاشها، وفي مقابل ذلك اخترنا مفهوم الغطرسة، الذي يشير إلى الافتخار بالتفوق والعنجهية والتطرف وكلا الدلالات للمصطلح تقف قبال الضد من الفلسفة. أشار سقراط إلى أنه لا يعلم إلا شيء واحد، وهو أنه لا يعرف شيئاً، وهنا يتجلى التواضع في أحسن صوره وهو الامتثال المتواضع أمام المعرفة وأمام الآخر.
كما أن من أميز خصائص الفلسفة أنها تفكير مرن غير متصلب ومعتدل يتقبل الآخر ومنفتح غير منغلق على ذاته، فيشكل ايديولوجيا تختزل الحق وتلغي الغير.
ونحن اليوم نعيش إرباكا عالميا عاما لا يكاد يخلو منه بلد من البلدان إلا في استثناءات نادرة، ويتمثل في عدد من المشكلات الاقتصادية، التي تتعلق بنقص الموارد والسوق والبحث عن مستهلك، وكذلك بالبيئة والتلوث والتصحر والجفاف والاحترار العالمي وغير ذلك.
وأما في عالمنا الشرق اوسطي، فإضافة لتلك المشكلات الاقتصادية والبيئة، هناك المشكلات المتعلقة بالهجرة واقتحام ثقافات جديدة، ثقافات أخرى ما يحتم حصول تماس غير لا يتكيف فيؤدي الى التحام خطير، فضلا عن مشكلة الطائفية والتطرف الديني، التي تضع بعض الجغرافيات بقلق مستدام، كما وأن تطرف العلماني العربي الذي لا يقل عتواً من تطرف بعضاً من الديني يشخصنا بموقف المتحير والباحث عن بحبوحة يقضي بها ما بقي من العمر.
وهناك مشكلات تضاف إلى تلك يمكن تسميتها "بمشكلات الغطرسة"، ولعله يمكن لهذا الوصف أن يدلنا على مصداق من الواقع ينطبق عليه الوصف وهو غطرسة الكيان الصهيوني الغاصب الذي لا يراعي حرمة ولا دين ولا ذمة ولا يعتبر أية اهمية للأخلاق والقيم، ولا لأي اعتبار آخر من حق في الأرض والتاريخ والثقافة ولا يحتفظ للحريات والهويات خصوصيتها واستحقاقاتها، كيان يعتاش على الحروب والصراع وسلب الناس ارواحهم وحقوقهم، كيان لا يعبر عن دناءته واستهتاره إلا الوصف الذي اخترناه له وهو انه كيان متغطرس جافاه العدل وجانبه الصواب.
تنمو الغطرسة من خلال اعتقاد هذا الشخص أو تلك المجموعة بتفوقها دينياً وعرقياً وجغرافياً على الآخر، وعلى أساس ذلك الشعور يحصل اندفاع للتعبير عن التفوق من خلال بيان احتكار الحقيقة وتخطئة الآخر، بل وربما إقصاؤه، فإذن الغطرسة شعور بالتفوق وفلسفة رجعية تقوم على الانبهار النرجسي بالذات وانحراف بالسلوك وهذا قول في المقام أولاً.
أما ثانياً فتعرف الغطرسة على أنها عنجهية وكيفية في التعدي والأخير فعل يتمثل في سلوكيات متطرفة سمتها عدم الاستقرار والفوضى والعشوائية، ولا ارادة النظام فتنجم عن ذلك نتائج وخيمة على الإنسان فرداً وجماعات، وقد وضحت مسرحية مارلو دكتور فاوستوس الشخصية التي تحمل اسم المسرحية على أنه عالم تجبره غطرسته وفخره على التوقيع على اتفاق مع الشيطان، من أجل تنفيذ رغباته وطموحاته.
ولذلك نجد في الفلسفة كما في الدين تأكيداً على ضرورة معرفة النفس، فقد ورد في اية قرآنية "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" كما وكان سقراط شيخ فلاسفة اليونان يؤكد ضرورة معرفة الذات، حيث يردد الشعار المكتوب على معبد دلفي "يا أيها الإنسان أعرف نفسك" أن تعرف ما تحب وما تكره وما تريد أن تطوله ومعرفة نوعية المطالب التي تريد تحقيقها وهذه المعرفة توفر للإنسان ادوات ناجعة للجم المطالب النفسية الخطيرة والمشبوهة.
هنا يوفر لنا الديني والفلسفي معاً مقدمات التصدي للغطرسة، التي تبدأ كشعور من الذات، وثم التصاقاً بالآخر كفعل متطرف وممارسة عنجهية، والغطرسة على ذلك واحدة من أخطر المشكلات التي تواجهها الفلسفة، إذ هي لا تعني التعدي الفيزيقي فقط، بل قد تكون غطرسة اقتصادية تتمثل في الغش والاحتكار والجشع. وقد تكون غطرسة علمية بأن تحتكر العلم والمعرفة وتوظفهما بطريقة شريرة تؤذي البشرية أو بالاستخدام السيئ للتكنولوجيا وما إلى ذلك، ولذا تقف الفلسفة كاستراتيجية للمكافحة والنضال ضد أشكال الغطرسة العديدة سواء كانت غطرسة في مجال التفوق العلمي أو الاقتصادي أو الحربي أو التكنولوجي، حتى تحول بينها وبين التمدد والتطاول المستمر والاعتداء على الإنسان، أو لا تسمح بفسح المجال لإيجاد التبريرات للغطرسة فتعمل الفلسفة على فضح كل ما يساهم في ذلك.