عدنان حسين أحمد
نظّم المركز الثقافي الهندي بلندن معرضًا شخصيًا بعنوان "قصيدة في لوحة" للفنان صادق كريم طعمة للمدة من 27 ولغاية 30 سبتمبر 2024. وقد ضمّ المعرض 35 عملًا فنيًا إضافة إلى مجموعتين أخريين تمحورت الأولى على مأساة الشاعر ابن زُريق البغدادي، وتضمنت 10 أعمال فنية منفّذة بالألوان المائية وجد ثلثها الطريق إلى جدران الصالة فيما تراكم الثلثان الآخران على منضدة جانبية. أما المجموعة الثانية التي تضم 10 أعمال فنية أيضًا فهي عبارة عن صندوق مستطيل يشتمل على قصائد ديوان "قارات الأوبئة" لشقيقه الراحل الشاعر فوزي كريم "طاب مثوىً" وقد خطّ الفنان قصائد أخيه باللغتين العربية والإنكليزية ووضعها داخل هذا الصندوق السحري اللافت للانتباه، ويستحق هذا "الكنز" مثل "مأساة ابن زُريق" معرضًا خاصًا لكل منهما يتسع للثيمات العميقة والأشكال المُعبِّرة التي وردت في كل مشروع على انفراد. يعرف المتابعون لتجربة الفنان صادق طعمة أنه مُولع بالحروفية والشِعر في آنٍ معًا وقد جسّد هذا الولع أو الافتتان في أعمال فنية سابقة رصد فيها أبياتاً أو حتى مقاطع شعرية للجواهري ولعله كرّر البعض منها أو غالبيتها في هذا المعرض الذي يضم خمسة أعمال فنية تشكِّل إحدها "عين القلادة" لمجمل اللوحات الأُخر. وبما أنّ لوحات المعرض كلّها تحمل عنوانًا واحدًا وهو "قصيدة في لوحة" فسنضطر لتسمية كل عمل فني باسم عنوان القصيدة أو بمُفتتحها. ولعل اللوحة الأكبر المهيمنة على المعرض برمته هي لوحة "سلامٌ على عاطرات الحقول" (130×130سم) التي يقول فيها الجواهري: "سلامٌ على عاطراتِ الحقولِ/ تناثرُ مِن حولهن القُرى ".
نفّذ الفنان هذا المقطع من القصيدة بالخط الكوفي المربّع الذي يبدو شديد الاستقامة وقائم الزوايا لأنّ أساسه شكل هندسي بحت ويُكتَب غالبًا من دون نقاط. يأخذ مقطع هذه القصيدة "المقصورة" شكل المكعّب وهو شكلٌ قوي رصين ومقدّس يُحيل المتلقي إلى "الكعبة" وما سواها من الأشكال المُحاذية لها. يسمّى الخط الكوفي المربع بالخط الشطرنجي أيضًا ويمكن ملاحظة جانب من رقعة الشطرنج أسفل التكوين البصري المكعّب الذي تطوّق قسمهُ الأعلى وجانبيه الأيمن والأيسر حروفيات منفّذة بالألوان الوردية والزرقاء. أمّا اللوحة الثانية التي تحمل اسم "سجا الليل" المأخوذة من القصيدة المقصورة السابقة التي يقول فيها الجواهري: "سجا الليلُ إلا حمامًا أجدّ/ هَديلاً وترجيعَ كلبٍ عَوى". وقد نفّذها بتقنية الخط الكوفي المربّع الذي أخذ فيه المقطع الشعري شكلًا هندسيًا مستطيلًا ذا أبعادٍ ثلاثة تُحيطه من الجانبين الأعلى والأسفل حروفيات مموّهة بضربات لوّنية جريئة تطمس بعض الحروف وتُظهر البعض الآخر منها بينما يبدو المقطع الشعري وكأنه لافتة مجسّمة أو نُصب معلّق يجذب أنظار المتلقين. أمّا العمل الثالث فهو يجمع بين شاعرين كبيرين وهما علي بن الجهم " 803 - 863م" الذي يتصف شعره بقوة الصياغة ورصانة التعبير حيث اقتبس منه البيت الأول الذي يقول: "عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ/ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري".ويتعالق في العمل الفنيّ ذاته مع بيت للجواهري " 1899 - 1997 م" الذي يرِد فيه الجسر وعيون المها:
"على الجْسِرِ ما انفكَّ من جانبيهِ/ يُتيحُ الهَوى مِن عيونِ المها".
توظيف الموروث الرافديني
ينتقي الفنان صادق طعمة لعمله الفني الرابع بيتًا شعريًا آخرَ مُقتبسًا من القصيدة المقصورة
ذاتها التي يحيّي فيها العراق:
"سلامٌ على هَضَباتِ العراقِ وشطَّيهِ والجُرْفِ والمُنحنى"
وفي أعلى اللوحة تكوين يشير بوضوح إلى الموروث الرافديني الكبير ولقاه الأثرية الجميلة. أما اللوحة الخامسة للفنان صادق طعمة فقد ضمّت بيتًا شعريًا من القصيدة ذاتها يقول فيه الجواهري :"سلامٌ على قَمَرٍ فوقَها/عليها هَفا وإليها رَنا".
وقد نفّذها الفنان بالخط الكوفي المربع الذي احتل القسم العلوي من اللوحة قمران أحدهما نصف دائري والآخر مكتمل ضمن التكوين الهندسي الأول. فيما تشكّل الحروفية المتداخلة القسم الثاني، بينما يهيمن النهر والجسر وما بينهما من تكوينات على القسم الثالث والأخير.
اختار الفنان صادق طعمة أبياتًا ومقاطع شعرية لخمسة عشر شاعرًا بينهم شاعران أحدهما ينتمي إلى العصر الجاهلي وهو زهير بين أبي سُلمى " 520 - 609م" والآخر هو ابن زريق البغدادي الذي تُوفي سنة 1029 إضافة إلى13 شاعرًا عراقيًا وعربيًا وهم على التوالي:محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السيّاب، وعبدالوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وسعدي يوسف، ومحمود البريكان، وفوزي كريم، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ومحمود درويش، ونزار قباني. وكنت أتمنى أن يُضيف إليهم صلاح نيازي، وفاضل العزّاوي، وسركون بولص، وصلاح فائق وآخرين من الذين تركوا بصمة واضحة في المشهد الشعري العراقي.
ما يميّز معلّقة زهير بن أبي سُلمى التي تتألف من 62 بيتًا شعريًا أنّ الفنان صادق طعمة قد رسمها بالخط الكوفي المربع من دون نقاط ربما ليتحدى قدرة المُشاهد في قراءة الأبيات غير المنقّطة. وقد انتقى صادق طعمة 29 بيتًا من أصل المعلّقة التي تبدو غريبة وسط هذه الأعمال الفنية المنفّذة بالخط الكوفي والكتابة الدارجة المقروءة التي جسّدها بريشة قصبية. تبدأ المعلقة بالمطلع الذي يقول: "أمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ/ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ
فَالمُتَثَلَّمِ".
تحتشد المعلّقة قبل البيت الأخير بعدد من الحِكَم والأقوال المأثورة والقصيدة برمتها تدور حول "مُصلحين أصلحوا بين بني عبس وبني فزارة وذلك لرهان بين أفراد من القبيلتين"، كما ورد في كتاب "شرح المعلّقات السبع" لأبي عبدالله الزوزني. ما يلفت النظر في هذه المعلّقة هي لُفافة الورق القديمة التي تُحيل المُشاهد إلى جلود الغزلان والأيائل وما سواها من جلود الحيوانات الأخرى التي تُكتب عليها رسائل الملوك والأمراء إلى الولاة الذين يعيّنونهم في المدن والأمصار البعيدة.
يحاول الفنان صادق طعمة في معرضه أن يوازن بين لغة الشعر والبنية التشكيليّة للعمل الفني، ويترك للمتلقي حرية أن يقرأ النص الشعري سواء أكان موزونًا ومقفىً أم حرًا طليقًا أم تفعيليًا. كما يُتيح له أن يتأمل شكل اللوحة الفنية والثيمة التي تنطوي عليها. ويبقى السؤال الاشكالي في هكذا معارض هو: مِنْ يضمن لهذا المتلقي الذي يقرأ القصيدة أن يشاهد اللوحة في الوقت ذاته من دون أن ينفصل عنها كليًا؟ ومن يضمن لمُشاهد اللوحة أن يقرأ القصيدة وكأنها جزء لا يتجزأ من العمل الفني برمته؟ تُرى، هل ينجح المتلقي في التوفيق بين القراءة والتأمل أم يفرّق بينهما فيذهب مُحب الشعر إلى القصيدة، ويتجه عاشق الفن التشكيلي إلى اللوحة التي جمعت بين الرومانسية، والتعبيرية، والرمزية، واللمسات التجريدية الواضحة للعيان؟