خضير الزيدي
كل ما تحقق في معرض هناء مال الله الأخير والمعنون "رمل وزجاج" الذي احيته في جاليري "ارتزوتك" بمدينة عمان، في الخامس من أكتوبر 2024 هو نتاج معرفة جاءت في الاتجاه المناهض للحرب الواقعة في غزّة ولبنان واستحضرت طاقتها التعبيرية ضمن أسلوب مميز، بحيث رأينا تنوعا في المواد الخام المعروضة في هذا المعرض الاحتجاجي، فهناك الفوتوغراف والرسم والتخطيط والفيديو وسبق لهذه الفنانة أن قدمت أعمالا بقيت في ذاكرتنا لما تمتلكه من مقومات نجاح في تحقيق فكرتها وخاصة ما تعلق بالخراب والاحتجاج ومناهضة وقائع الحرب، وهو التزام أخلاقي تشير إليه في أكثر من مكان في العالم العربي والغربي، بعيدة كل البعد عن الاستعراض الذي لا طائل منه أمام ماكينة الحرب المدمرة. هذا المعرض يكتسب أهميته لأنه صوت صارخ في الاحتجاج ضد أية حرب ومناصرة للفلسطينيين الذين تعرضوا لدمار في غزّة وبعض المدن الأخرى. وأهمية المعرض من جوانب فنية أنه لم يخضع لمعيار ذي طابع بنائي واحد، بل تعددت المواد والطرق في جوانب العرض أمام المتلقي مما جعلنا ننجذب إليه بقوة احساس وواقع منظور اعتمد تعدد الصياغات وتمثيل ما يمكن أن يقدم أدق التفاصيل المؤلمة لحياة أهل غزّة.
والملفت هنا أن هناء مال الله توسع من خيالها لتحتوي كل هذه المأساة بإرادة فن يجابه ويناهض الاحتلال والغزو، وعليه لابد لما تقدمه أن يعطي المتلقي قدرا من هيمنة البعد الدلالي لكل وحدة فنية وعنصر قدمته في المعرض.. واحدة من أفكار المعرض استمدتها مال الله من وسائل التواصل الإعلامي كالصورة والصوت، وتم توظيفهما بشكل ملفت وهما أساسان مهمان في المعرض، فالصوت والصورة لم يكونا من خيال الفنانة، بل هي اعتماد وجد عبر صراخ الفلسطينيين في ساحة الحرب، ولعل مثل هذا التوظيف يعزز من قيمة التذكير بالحوادث التي عاشها المهجرون ومن عاصروا هذه النكسة.
التجريب والدوافع
الإنسانيَّة
منذ وقت طويل والفنانة هناء مال الله تعمل على تكريس اسلوب يميزها عن الآخرين والدافع من كل ذلك هو الاتيان بتجريب له صياغة وعلاقة مباشرة بالفن وتجديد خطابه، فما عادت اللوحة تكتفي ببث رسالة تريدها هذا الفنانة، بل هناك وسائل وعناصر تم اعتمادها بناء على مستويات تجريبية لها اخراجها واشتغالها الذي تراه أكثر أهمية.
وهذا ما فعلته حينما اشركت وسائل "الميديا" في معرضها الأخير مستفيدة من كل التقنيات الحديثة لوسائل التواصل في نقل الأخبار، ليتم لها عرضها من ضمن ممارسة فنية تمنح وتجدد خياراتها الاسلوبية، كي تصل الرسالة بشكل واضح وصريح مع الاحتفاظ بالقيمة والعناصر الفنية والجمالية. وهو ابتكار غربي تم تطويعه في أكثر من مكان لفنانين آخرين ولكن لمال الله الدور في تعزيز التحول البنائي الذي يجعل من معرضها ذا أهمية شكليّة وإنسانيّة، لأنه متعلق بجوهر حرب مدمرة لا يمكن الإعلان عنها إلا بوسائل متقدمة عبر تقنيات بصرية وسمعية
أمام أنظار العالم.
من هنا جاء تجسيدها ليكون اضاءة ومرجعاً مهماً تتحقق فيه الغاية الإنسانيّة من تأكيد جرائم هذه الحرب، فالنص البصري هنا لم يكن ذا بعد فني يتعلق بغاية صورية فقط، بل ينساق لاستقلالية لم تتجزأ بعيدا عن مرجعيات جمالية تتداخل مع تفاصيل ومشاهد موثقة تتحول عبر خيال الفنانة إلى فعل بصري يكاد يكون شكلا احتجاجيا تتكافا فيه الرؤية التصويرية مع الهدف الإنسانيّ، وهو توثيق جرائم الحرب وبيانها أمام المتلقي ونتذكر جميعا موضوعة تقنيات الخراب التي عملت عليها الفنانة مسبقا. فقد جاء اليوم تأكيداً لفعل فني ورؤية احتجاج تقدمها بما يحفل به البعد الدلالي لجميع ما مثلته من تنوع في المواد والطريقة التي استحضرت فيها كل أدوات الاحتجاج ومناهضة الحروب
في المنطقة العربية.
وهكذا سيكتب لنا التاريخ بأن ما أنجزته هناء مال الله كان كفيلاً بأن يكون صوتاً يمثل مجاورة الفن مع الحوادث في قدرة فنية.. هي بمثابة ورقة احتجاج عالية أمام انظار الجميع.