صوفي رادكليف
ترجمة: عباس حسين جمعة
تخيّل أن تشعر بأنك لا تُضاهى، تمتلك المهارات التي لا تعرف حدودًا، والحافز الذي لا يخبو، والمرونة التي تجعلك تتجاوز كل عقبة تعترض طريقك نحو تحقيق أي هدف تسعى إليه. تخيّل أن تدرك تمامًا ما يتطلبه الأمر لتقديم أفضل أداء لديك يومًا بعد يوم، وأن تؤمن إيمانًا راسخًا بقدرتك على تحقيقه. تخيّل أن تكون قادرًا على تقدير مخاطر الفشل وتقبّلها، والمضي قدمًا بثقة تامة كأن الشك في النجاح لم يخطر على بالك قط. التسلق يمنحني هذا الشعور.
بإمكانك تسلق الصخور الصلبة، أو الانزلاق على الجليد المتجمد، أو مواجهة شلالات متجمدة تفيض بالقوة، أو تحدي الجبال الشامخة المغطاة بالثلوج، بل وحتى الجبال التي تجمع بين كل هذه التحديات. ومع ذلك، فإن أكثر ما يستهوي قلبي هو تسلق جبال الألب، حيث أجد نفسي في مواجهة القمم الأكثر إلهامًا ورمزية، تلك التي تمثل أيقونات العظمة في هذه السلاسل الجبلية الأسطورية.
في يوليو من عام 2010، وفي سن الخامسة والعشرين، عقدت العزم على أن يكون التحدي المقبل لي هو تسلق جبل مون بلان. كنت قد بدأت علاقتي مع تشارلي قبل أشهر قليلة، واقترح أن يرافقني في هذه المغامرة. تدربنا على مدى ستة أشهر، ثم حجزنا رحلتنا التي امتدت لأسبوع كامل في جبال الألب. كان الشعور الذي غمرنا خلال تلك الرحلة، ونحن نتجاوز حدود قدراتنا ونمد يد العون لبعضنا البعض في تسلق ذلك الجبل الشاهق، قد أشعل فينا شغفًا لا ينطفئ للمزيد. كانت تجربة ذهنية مرهقة إلى أقصى الحدود؛ ففي لحظات كانت أصوات داخلية تصرخ بنا للتوقف، كنا نواصل المضي قدمًا رغم كل شيء. وكانت المناظر البانورامية الخلابة خير رفيق لتشتيت تلك الأفكار. وهكذا كانت هذه التجربة البداية لعلاقة حب مغيرة للحياة مع الجبال.
منذ ذلك الحين، خضت مغامرات التسلق في أحلك أيام الشتاء، حينما لا تتجاوز ساعات النهار الست، ويجعل الطقس العاصف الشديد النهار يبدو كأنه لم يُشرق قط. كما تسلقت في ذروة الصيف، حين تكون الأيام غارقة في ضياءٍ ساحر وجمال يأسر النفس، يجعلك عاجزًا عن استيعاب عظمته. حين يتلألأ الثلج تحت أشعة الشمس وكأن طبقة من السحر اللامع تغلف كل ما تقع عليه عيناك. لقد شهدت شروقًا يأسر الروح، يأخذ الأنفاس، ويملأني امتنانًا لكل لحظة أعيشها في تلك اللحظات الفريدة، وفي كل ما أستطيع إنجازه.
لقد عايشت لحظات قارسة البرودة إلى حد أنني لم أعد أستطيع النطق، وملأني الخوف من فقدان أصابعي بسبب شدة التجمد. وسقطت إلى أعماق اليأس مرات لا تحصى، وأنا معلقة على حافة الجبل، والدموع تنساب على وجهي، عاجزة عن تصور كيفية الاستمرار. بالطبع، الخوف يرافقني، وهناك لحظات أتمنى فيها لو أنني لم أكن في هذا المكان، أو لو أنني اخترت رياضة أقل خطورة. إلا أن ما يدفعني للعودة مرارًا هو ذلك التوازن الدقيق بين المخاطرة والأمان، وبين التحمل الجسدي وحل المشكلات الذهنية، الذي يجعلني أسيرا على حافة التحدي بشغف متجدد.
كل قرار يُعتبر في الجبال بمثابة حجر أساس لا غنى عنه، لذا ينبغي عليك أن تتوجه إلى هناك مُسلحًا بأفضل ما لديك من أدوات، متكئًا على قوة اعتمادك على الذات وثقتك الراسخة بنفسك. فالخيارات البسيطة، كإحضار معدات غير ملائمة، أو نقص في الغذاء أو الماء، أو حتى الاستيقاظ في وقت متأخر، قد تكون الفاصل الحاسم بين تحقيق أهدافك أو الاضطرار إلى التراجع، وللأسف، بين الحياة والموت. وكلما ارتفعت في تسلقك، زادت حدة كل شيء وأصبحت المخاطر أكثر شراسة.
ما يثير شغفي هو التوازي العميق بين تجربة التسلق وحقيقة الحياة. إنها فرصة لا تُقدّر بثمن لاستكشاف أعماق نفسي، لفهم جوهر من أكون، وأين ترقد حدودي، وكيف يمكنني أن أعيش بحيوية أكبر وأن أُحسن من ذاتي. كل يوم يمثل فصلًا دراسيًا جديدًا، حيث أتعلم شيئًا جديدًا مع كل مغامرة أخوضها. لا وجود لمفاهيم النجاح والفشل، بل إن المسألة تتعلق بالتجربة والتعلم المستمر. وإذا كان النجاح يتطلب تحمل مخاطر تفوق قدرتي، فإن ذلك لن يُعتبر خيارًا متاحًا أمامي.
لقد مررت بلحظات تحدّق فيها تشارلي في عينيّ قائلاً: "علينا أن نعود"، فأشعر حينها بفيض هائل من الراحة يغمرني. أتوق بشدة للعودة إلى روتين الحياة المعتاد، حيث لا تبدو الأمور من حولي ضخمة ومرعبة. بناء الثقة وصقل المهارات في عالم التسلق يتطلبان وقتًا وصبرًا، وأنا أسير في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، فإن الأهم على الإطلاق هو إدراك اللحظة المناسبة لإسدال الستار على المغامرة واتخاذ قرار العودة بحكمة.
مؤخراً، قرر تشارلي وأنا الانفصال عن وظائفنا في لندن، وشرعنا في الانتقال إلى شاموني، الواقعة عند سفح جبل مون بلان، وذلك لنكرّس مزيدًا من الوقت لاستكشاف هذا البُعد من حياتنا. إن تجربة التسلق تلهمنا لاستكشاف آفاق هويتنا الحقيقية، وتحثنا على عيش حياتنا بأقصى ما يمكننا تخيله من إمكانيات.
إذا كنت لم تجرب التسلق من قبل، فثمة أمور لا بد لك من معرفتها. إن التسلق هو تجسيد للتواصل الإنساني، فهو يتضمن بناء الصداقات والشراكات، ومشاركة لحظات الارتياع عندما تشعر أن الخطر كان قريبًا. يتعلق الأمر الاستمتاع بتناول المشروبات الدافئة بعد مغامرات التسلق، تلك التي تمتد حتى الساعات المتأخرة من الليل، إلى جانب التخطيط لمغامرات جديدة في المستقبل. إنه يتيح لك الوقوف على قمم الجبال التي لم تتجاوز عينيك حدود صورها، ولم تقرأ عنها سوى في صفحات الكتب. إنه ذلك الشعور الرائع والفريد من نوعه بالإنجاز الذي يمنحك إياه التسلق، حيث تشعر بقوة داخلية وكأنك قادر على تحقيق أي هدف تضعه أمامك.