يحدثُ في بغداد
عبد الله الميّالي
"يحدث في بغداد" رواية للدكتور رسول محمد رسول (1959 – 2022) صدرت في عام 2014 عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وتتألف من 200 صفحة.
الرواية تحكي قصة بحث "سعيد الدهان" وبمساعدة زوجته "مريم الشبلي" عن فصلين مفقودين لرواية مخطوطة عنوانها "ينحني الصابر للوجع" تركها صديقه القاص والكاتب والروائي مرهون الشاكر ووافاه الأجل لإصابته بمرض سرطان الرئة، واكتشف الدهان أن الفصلين سرقتهما زوجة مرهون الشاكر الثانية "نُهى ردّام" وأحرقتهما لاحقاً، لأن فيهما إدانة لها بالانحراف والخيانة الزوجية: "مرهون يقول فيها إنني غير شريفة". لم يسكت الدهان على ذلك واستطاع بجهوده أن يجعل من مخطوطة رواية "ينحي الصابر للوجع" والأوراق المفقودة منها قضية رأي عام ومثار اهتمام الوسط الأدبي والثقافي والإعلامي، حتى وصلت أروقة القضاء، وبينما كان الجميع بما فيهم القضاء منشغلاً ببحث القضية، فُوجئوا "كما فوجئ القارئ أيضاً) بخبر قيام (نُهى) بعملية انتحارية راح ضحيتها العشرات. ووجدنا في الرواية إدانة للعمليات الإرهابية والقتل على الهوية، التي حدثت في بغداد بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 حيث "صار القتل وجزّ الأعناق بحسب الهوية والانتماء شائع الحدوث". "كان المسلحون المتطرفون قد أحرقوا أمكنة عدّة في العاصمة، مستخدمين السيارات المفخخة وبعض الانتحاريين والعبوات الناسفة، وبدأنا نسمع عن حرب طائفية قذرة يجري الإعداد لها على نار هادئة لتشعل الحرائق بين الناس". تتبنى وزارة الثقافة طبع الرواية/ المخطوطة "ينحني الصابر للوجع" مع غياب الفصلين المفقودين. في إشارة إلى انتصار الفكر والحياة مقابل قوى الظلام والجهل، وتتولى "مريم الشبلي" كتابة مقدمة الرواية، في إشارة لانتصار المرأة التنويرية المثقفة مقابل المرأة الظلامية/المنتحرة "نُهى".
التحليل الفني للرواية
1ــ تنتمي الرواية بامتياز إلى تقنية أو لعبة الميتا سرد، باعتبارها إحدى تقنيات ما بعد الحداثة، وهي تقنية اجترح لها كاتب الرواية رسول محمد رسول لكونه ناقداً أيضاً، مصطلحاً جديداً من عندياته يحمل اسم "السرد المفتون بذاته" تكلّم عنه بالتفصيل في كتابٍ مستقل يحمل العنوان نفسه "السرد المفتون بذاته"، ويعني به: تمفصل كينونة السرد المحضة كموضوعة سردية متخيّلة أو تخييلية في أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو أي نصٍ سردي تخيُّلي آخر، وهو تعريف لا يختلف كثيراً عما هو متداول من مفاهيم الميتا سرد، والذي يتمظهر باستثمار ثيمة القصة أو الرواية أو المسرحية أو الرسائل داخل الرواية الأم.
2- تنحّى الكاتب "الراوي العليم" عن السرد، تاركاً المهمة للبطل سعيد الدهان ليروي روايته الأم بلسان المتكلم "الأنا"، وبالاستعانة أحياناً بالراوي الثاني "مرهون الشاكر" ليروي روايته "ينحني الصابر للوجع" المنبثقة من الرواية الأم.
3ــ برز في الرواية صراع الخير والشر على المستوى الاجتماعي والسياسي، حيث مثل محور الخير "سعيد الدهان وزوجته مريم الشبلي، ومرهون الشاكر وزوجته الأولى فاطمة البصري ووالدته أم مرهون، وشخصيات ثانوية أخرى"، فيما مثل قطب الشر "نُهى الزوجة الثانية لمرهون، وضابط الشرطة، والإرهابي، اللذان يشاركان المتعة في استباحة جسد نُهى" فضلاً عن الإرهابيين والمتطرفين والقوات الأمريكية الغازية.
4-استثمر رسول اشتغالاته النقدية واهتماماته الأدبية المتنوعة، ليسكب في روايته بعضاً منها: "ينحني الصابر للوجع، أخذتُ أتأمل كينونته كقارئ، وتساءلتُ: من أين جاء مرهون بهذا العنوان؟ مرهون يعشق التناص، هكذا يقول النقّاد عنه، خصوصاً أولئك الذين درسوا أغلب سردياته القصيرة والطويلة".
"إن مرهون وبوصفه ناصّاً لروايته – ينحني الصابر للوجع– صار يخاطب القارئ، وهو أحد أساليب ما يسمونه بما وراء الرواية، بحسب ما يقوله فاضل ثامر، أو السرد المفتون بذاته، بحسب ما يقوله ناقد آخر".
من الواضح في هذا النص أن الكاتب يشير لنفسه في نهاية هذه العبارة "ما يقوله ناقد آخر"، كما جاء في عبارة أخرى: "أن ما ذُكر فيه غالباً ما يُصنّف في مجال السرد المُتخيّل، لكن هذا السرد، وعلى نحوٍ أو آخر، تراه "يُسرّب الواقع" كما يقول الناقد المغربي سعيد بنكراد .. إن ما كتبه مرهون في روايته بوصفه سرداً متخيلاً سرّبه من الواقع إلى الواقع المتخيّل، وهذا سيكون سراً لا يعرفه أي أحد سواي، كي لا تسقط الرواية في (التسجيلية الساذجة) كما يقول بعض نقّاد السرد الروائي".
5ــ أخذت ثيمة الخيانة الزوجية، من قبل الزوجة نُهى مساحة واسعة من الرواية، وإذا أردنا أن نستعين بالأدب العالمي حول هذه الثيمة، سنقف أمام رواية "مدام بوفاري" لفلوبير، ورواية "آنا كارنينا" لتولستوي، حيث برزت فيهما ثيمة الخيانة "من قبل الزوجة" وقيامها بالانتحار في نهاية المطاف، وهذا ما حدث لنُهى في رواية "يحدث في بغداد" التي أنهت حياتها بعملية انتحارية.
6ــ يبدو لنا أن الرواية قد أخفقت في كشف المبررات والدوافع والأسباب، التي جعلت نُهى تلجأ إلى الخيانة الزوجية من جهة، وإلى قيامها بتلك العملية الانتحارية المأساوية من جهة أخرى. كما أن الكاتب لم يستعن بدراسات ونظريات ومقالات علم النفس في هذا الجانب، في كشف تلك المبررات التي تجعل من الزوجة تنحدر إلى هذا المستوى من الخيانة، وتسمح للآخرين أن يستبيحوا ويعبثوا بجسدها، ثم تقوم بعملية إرهابية انتحارية. يُضاف إلى ذلك أن الكاتب لم يكشف للقارئ معلومات وافية عن طفولة نُهى ومستواها التعليمي ومحيطها العائلي، فكانت صورتها في الرواية تقترب من الضبابية إلى حدٍ ما. 7ــ رغم أن الكاتب أكثرَ من الحوارات الجانبية، غير أنه اعتمد النسق التصاعدي لمجريات الأحداث، لغرض الابتعاد عن الرتابة السردية التي تخلفها تلك الحوارات. كما قدّم الكاتب في روايته رؤية صادقة كشف من خلالها عن الفوضى العارمة والارتباك، الذي حصل في المشهد الاجتماعي والسياسي لما بعد عام 2003، ومن تداعياته تذبذب الهوية والانتماء الوطني من خلال شخصيات "الإرهابي، ضابط الشرطة، نُهى".
8ــ كُتبت الرواية بلغة سهلة وبسيطة وسلسلة، وهو أسلوب عُرف به الكاتب حتى في كُتبه ومقالاته النقدية، حيث يتجلى فيها الوضوح والبساطة والمرونة، مبتعداً عن لغة التعقيدات والتوصيفات الثقيلة والمتحجّرة.
(أشنع ما في الأمر، هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز نفوسنا، هذا التعوّد على الشر هو ما ينبغي أن نحزن له) دوستويفسكي: الأخوة كارامازوف ج4.
أبرزت رواية "يحدث في بغداد" إشكالية وثنائية استباحة الوطن من قبل الغزو الأمريكي للعراق والمنظمات الإرهابية من جهة، واستباحة جسد المرأة (الزوجة نُهى) من جهة أخرى. حيث يتمظهر في الرواية ثنائيات المدنّس والمقدّس، الفضيلة والرذيلة، الوفاء والخيانة.
فقد كشفت لنا الرواية مضمرات المسكوت عنه في المجتمع، أي الخيانة الزوجية، من خلال تمرد نُهى زوجة مرهون الشاكر على العلاقة الزوجية الشرعية، متجاوزة التقاليد والأعراف والفضيلة بانجرافها نحو الرذيلة، لتختم حياتها بعملية إرهابية انتحارية يذهب ضحيتها العشرات من الأبرياء، كأنها بهذا الفعل تنتقم من المجتمع ومن نفسها. ويبدو أن ثوابت العفة والأخلاق والالتزام كانت تشكل امتحاناً عند نُهى، فسمحت لنفسها أن تتمرد على هذه الثوابت، وتسمح لجسدها أن يكون مسرحاً للاستباحة لتحقق شبقها خارج العلاقة الشرعية، فتخاطب زوجها بكل وقاحة: "هذا المساء، أحياه معي ثلاثة من عشّاقي، أحدهم قوّادي الذي تعرفه ولا تعرفه، واثنان جُدد، أحدهما ضابط الدورية في منطقتنا، والآخر إرهابي".
ومن المفارقات التي حملتها الرواية أن يكون جسد نُهى هو اللعبة التي اشترك فيها الإرهابي، الذي استباح الوطن من طرف، والضابط المكلف بحماية الوطن من طرفٍ آخر. فالإرهابي والضابط يُفترض أنهما ضدان مختلفان من حيث الموقف العام، ولكنهما يلتقيان عند جسد نُهى ليمارسا إشباع غريزتهما!. وفي لحظة تجلي من اللاوعي واللاشعور اندلق المكبوت كالطوفان، وكشفت نُهى القناع عن صورتها الحقيقية.
وهكذا صار جسد "نُهى" وطناً يلهو به العابثون، مثلما عبث بخارطة الوطن "طُغاة، غُزاة، إرهابيون، أحزاب فاسدة، عملاء،.. الخ" هذه هي الرسالة التي أرادت الرواية إيصالها للقارئ بإدانة واضحة لهذه الفئة من العابثين.