حبيب السامر
بعد أن تفرغ من قراءة كتاب ما، تصعد عبر سلالم روحك كلمات الكاتب فلوبير"الكتابة طريقة في الحياة" وتشعر بجذوة خفية يشاركك فيها أناس غير معروفين لك، سوى أنك مررت بحياتهم في صفحات هذا الكتاب أو ذاك، وهو بالنتيجة سيزيد "فضولك الإطلاعي" بمعلومات منتقاة قد تكون واضحة وسهلة أو تغلفها أقنعة الكاتب بأشكال حكايات وهموم، على الرغم من سعينا وتوقنا إلى منابت الجمال والمعنى، إذ تعج مجتمعاتنا بشخصيات نكاد نعرفها وقد تصادفنا في مجالات قراءاتنا، كلما تدفعنا الحياة بمجاديف المتاهة، لنكتشف بواطن هذه – الشخصيات – بحكم قسوتها وحجم الفواحش والمعصية التي تتعامل بها في حياتها، من بين هذه الشخصيات التي تظهر كثيراً في هذه الرواية بطلها "سيمون سيمونيني".
بعد تصفحنا لرواية "مقبرة براغ" لامبرتو إيكو، التي نُشرت أول مرة في إيطاليا عام 2010، وفازت بجائزة "الإندبندنت" في بريطانيا عام 2012، كونها مثلت أفضل عمل أجنبي، وهذه الرواية المعروفة باسم "مقبرة العِظام" تعد أكبر مقبرة عبر التاريخ وتقع في براغ/ جمهورية التشيك. وهي معروفة بتصميمها المعقد والغريب وتمتاز بجدرانها المزينة بالعظام والجماجم، حيث عمدت هذه الرواية إلى كشف العوالم السفلية للمجتمع وشتات العالم، كونه – الراوي- يستمد من التاريخ مادته الأساسية ومدارات أحداثها، وهذا ما تؤكده المصادر والراوي ذاته بأن معظم الأحداث التي تدور في فلكها الرواية والشخصيات فيها حقيقية فيما لو استثنينا "سيمونيني" فهو شخصية مختلفة تعمل على إثارة الماضي واستنطاق ما أخفاه التاريخ، ويلعب على حبل المغايرة وأجواء الشواغل والكره المتجذر، في حين تجد أن متعته الأهم لديه هو الطعام. شخصية غريبة ومركبّة ومربِكة وحريّفة في التزوير والتزييف للحقائق، فهو عميل مزدوج.
يتعامل ايكو بفواعل مسرودة وحكايات مساعدة تنتج عن عنوان مركزي، كونه يفعّل معمار الكتابة من خلال التوغل في أحوال القارئ بوجود متخيّل بكينونة أساسية، ويظل التساؤل في دواخلنا هل هناك راوٍ واحد أم رواة عدة، وقد اتبع أسلوب "الراوي المتسلسل" بحيث كلما يظهر راوٍ يتحدث ويقول ما عنده بمهارة، يتبعه آخر ضمن سياق الحكاية المتداخلة مع حكايات أخرى لتشكل بذلك بؤرة الحدث الأهم، وقد تكون هذه هي الطريقة القديمة في عرض الأحداث بتسلسل زمني تعتمد الرصد السلوكي والاجتماعي والتفاعل المتبادل لتقديم العالمين الباطني والخارجي وتحلّل الشخصيات في تناولها ضمن بؤرة الحكاية وتدفق دافعية العمل بترابط الصورة في حياة معيشة أو متخيلة، وما يسجَّل للروائي هو إثارة علامات استفهام كثيرة، بعد الانتهاء من قراءة هذا العمل، هل كل ما تحدث به الرواة أو الراوي المركزي قد حدث فعلاً، أم كانت الحقيقة في محل آخر، ملتبسة تلك الأحداث قد تكون مزيفة ومزورة وقد تكون فعلا حقيقية؟ وتظل الحيرة في نفس القارئ هل يصدق ما قرأ وما تابع من أحداث وهل حدثت فعلاً، أم إنها محض شك؟ لأن الرواية امتزجت فيها الفلسفة باللاهوتية والتاريخية الجافة، وكشف النقاب عن بعض الحقائق من خلال اليوميات وتشتت الصراعات، وحياكة المكائد، ورسم المخططات، تنوع الأقنعة وزراعة الشكوك وتفعيل الضغائن، كل هذا ما خبره "سيمونيني" خلال عمله لدى كاتب العدل " ديب ودانغو" ليتعلم أساليب تزييف الوثائق، وتزوير الحقائق والعمل كعميل مزدوج، ومدبلج اعترافات مشبوهة، ومشبّع بالكره وهذا ما تؤكده مقولته "أنا أكره.. إذن أنا موجود".
حين سئل أمبرتو إيكو ذات مرة بعد صدور كتابه "مقبرة براغ" عن كمية الكراهية التي تناولها في عمله هذا، أجاب: "يمكنني القول أن ثمة وفرة من الروايات المكرسة للحب وحان الوقت لشرح الكراهية التي هي شعور منتشر أكثر من الحب، وإلا ما كانت هناك الحروب أو الجرائم أو السلوك العنصري، ولهذا كتبت مقبرة براغ".
اشتغل سيمونيني على تنفيذ وصية جده، حيث شهد القرن التاسع عشر حروباً ومؤامرات، وحملة غاريبالدي، وأحداث الكومونة في باريس، وقضية درايفوس وغيرها، من خلال تحريك محيط التاريخ عبر وسائل ووسائط عدة مثل الكذب والخطأ للوصول إلى صناعة الوهم، والنزعة النفسية، الشك وخيوط ضبابية تغشي النظر الحقيقي، وبناء فلسفة التزييف وهذا المنحى الخطير تعتمده الكثير من الدول لتشويه وتغيير صورة التاريخ، كما حدث في هذه الرواية المتسلسلة التي تركز على قصة بحبكة متقنة تجعل القارئ يصدقها وتسهل عملية وصول المحكي القصدي إلى ذهن المتلقي من خلال تنامي الأحداث وإدراج ما هو يومي ليشكل بمجموعه تاريخاً يصدقه من يمر على صفحات الرواية وكأنها من الواقع الحقيقي، على العكس من رؤية إيكو: "لا ينبغي خلط إنتاج ما هو زائف بإنتاج التخييل".
يتجه مبنى الرواية على أضلاع مثلث المؤامرة، كونه يتخذ التاريخ مصدر أحداث عمله، لأننا أمام عمل يختلف عن رواياته السابقة "اسم الوردة 1980، بندول فوكو1988، جزيرة اليوم السابق 1994، باورد لينو2000، الشعلة الخفية لملكة لوانا 2004" الذي وصفه بعض النقاد "بالسرد المفتون لوجود إبداع متخيّل، وكينونة محضة أساسية، حكائية تتمفصل في مسالك إجناسية جمالية وحكائية، حكاية داخل حكاية كبرى. وكيف تكون ساحة موبير ومرور زائر لتجد الباب المغلق، يدخل ليجد الغبار قد غلّف كل شيء، ينظر فوقه/ من هنا نجد الملفوظات السردية بدلالة مغايرة كونها تجعل من الأمور الغريبة ساطعة، حكاية الصندوق وأوراق جده بمثابة وقود للكراهية وفق سياق تاريخي ينسج الحكاية كما يصف سيمونيني عمله: بأنه سلطة الفن المذهلة، ينحت رسالة تبدو حقيقية، يرّكب اعترافات مشبوهة، لذا تجد التوليفة التي قدمها الكاتب منسوجة بإتقان وسرد محكّم في تقديم طبق الأفكار بنزعة تآمرية، منطلقاً من كون الكلمات تغير العالم، إذ إن تداول الكذبة لإشاعتها وتعميمها بلغة منمقة وقريبة إلى عاطفة المتلقي سيصدقها حتماً، وهذا هو عمل الكاتب في توصيل مناخات أفكاره بصيغ عدة، كون الرواية تدور أحداثها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومسرحها إيطاليا وفرنسا، وتحديدًا بين تورينو وباليرمو وباريس. وتتقصى مسيرة رجل بارع في تزييف الأحداث، وتزوير المستندات والشهادات، ويتصف بعمل مشبوه وقاتل، يدعى سيمون سيمونيني، وهو يلعب الدور الرئيس في أغلب متبنيات الأحداث البارزة في تلك الحقبة من الزمن.