العالم رواية

ثقافة 2024/10/16
...

أحمد عبد الحسين

إذا كان كلّ ما يحدث في العالم، إنما يحدث لكي يوضع أخيراً في كتابٍ كما يقول بورخس، فإنّ ذلك الكتاب سيكون رواية بالتأكيد. 

ومع أن بورخس نفسه لم يكتب رواية، بل قصصاً غرائبية لفرط واقعيتها، وأسطورية لشدّة أرضيتها، إلا أنه ككل الحكّائين الكبار كان مأخوذاً بالرواية، وربما شكّلت حكاياته العجيبة مع سيرة حياته تلك الروايةَ التي كان يطمح إلى تدوينها.

العالم رواية. وفي آخر الأمر سواء كنّا نكتب الشعر أو نمارس فناً آخر من الفنون فإننا رهائن واقعة ما تحدث لنا أو على مقربة منا. نحن أبناء الوقائع. وأنسب ما يمكن أن تؤدى فيه الوقائع هو السرد المتصل بسرد لا ينقضي إلا مع انقضاء كل عمل ممكن، أي إلى الموت.

هويّة الإنسان لا تنفكّ عن سرده لحياته، وهو يتحدد لدى الآخر ويكون متفهَماً ومقروءاً حين تكون له تجربة قابلة لأن تُروى. وكلما كانت هذه التجربة مشغولة كتحفة فنية كانتْ أعمق وأغنى وأشدّ أثراً. ربما لهذا السبب تزامنت الثورة الصناعية في أوروبا مع ثورة كتابية مصاحبة تمثلت في الانتقال من الاكتفاء بكتابة التاريخ إلى رحابة كتابة الرواية. وهذا الانعطاف من الزمن العامّ إلى الأزمنة الشخصية كان علامة على الفردانية أولاً وعلى جعل هذه الفردانية قابلة لأن يتشاركها الفرد مع آخرين عن طريق الرواية.

بحلول ثورة التواصل ظن كثيرون أن حاجة الإنسان إلى إنشاء رواية عمّا يحدث قد انتهتْ وأنْ لا تجارب مشتركة تفضي إلى السرد، أو بتعبير والتر بنيامين “نحن في حقبة لم يعد فيها للسرد مكان لانعدام التجارب المشتركة”. وأنّ الزمن الإشهاريّ المعبّر عنه في منشورات وسائل التواصل أو في شيوع ثقافة الإعلان، أصبح الزمن المهيمن الطارد لزمن السرد، غير أنّ الأمر على ما نرى ونقرأ يمضي بالضدّ من ذلك، فالرواية لم تزلْ تغري أناساً بكتابتها بالمقدار ذاته الذي تغري به أناساً آخرين لقراءتها، ولم تزلْ أكثر الكتب مبيعاً كتب الرواية، ولم تزل حياة الإنسان قابلة لأن تُسرد. 

وقد يكون لتبدّل طبيعة الوقائع ودخول العالم الافتراضيّ لمزاحمة الواقعيّ مدخل لتغيير أصول اللعبة الروائية وقواعدها، ونمضي يداً بيد مع بول ريكور الذي يحدس أن شيئاً ما في عالم الرواية مات، لكنّ شيئاً آخر يظل قابلاً للانبعاث من جديد، فقد كتب “ربما كنا بالفعل شهود، وصناع، موتٍ معين، هو موت فنّ سرد القصص، وربما كانت الرواية أيضاً تُحتضَر كشكل سردي، ولكن أشكالًا سردية جديدة، لا نعرف كيف نسميها، تمر في طور الولادة، وأنها ستشهد على حقيقة أن الوظيفة السردية لا تزال قابلة للتحول، لكن تحوُّلها لن يصل إلى حدّ الموت”.

 هذا العدد من الملحق عن الرواية بمناسبة أسبوع الرواية العالميّ. نصدره وفي الصميم من وجداننا إيمان بما قاله بورخس من أن كل ما يحدث إنما يحدث ليوضع أخيراً في كتاب. وأنّ هذا الكتاب رواية بالضرورة.