التريند.. والثقافة المشوّهة
صفاء ذياب
على الرغم من ترجمة أربع روايات للكوريَّة الجنوبيَّة هان كانغ، غير أنَّها لم تشتهر ولم تُصبح ترينداً إلاَّ بعد إعلان الأكاديمية السويدية حصولها على جائزة نوبل للعام 2024. حدثٌ واحد جعل من كانغ ترينداً في دقيقة واحدة، وسائل الإعلام العالمية انشغلت لساعات طويلة في تحليل أهميتها وخطاب الأكاديمية السويدية الذي اختلف المتابعون في تحليله.
فكيف يمكن أن يصبح خبر ما أو شخصية أو صورة ترينداً في لحظة ما؟ ولماذا يختفي هذا التريند بمجرّد صعود تريند آخر؟
ما التريند؟
لم يكن مصطلح التريند شائعاً إلَّا بعد ظهور السوشيال ميديا بمختلف أشكاله، إن كان في فيسبوك أو تويتر أو انستغرام، فضلاً عن صعود المشاهدات على اليوتيوب الذي يجعل من فيديو ما في واجهة البحث بعد أن يتجاوز حدَّاً معيّناً من المشاهدات.
وفي تعريف بسيط، يشير التريند إلى الاتجاه العام الذي تتبعه الموضوعات على مرِّ الزمان، ويمكن تعريفه بأنَّه انتشار خبر أو حدث بشكل كبير في فترة زمنية محدّدة، ويشمل موضوعات متنوعة مثل الأحداث العالمية المهمّة والأخبار الساخنة وأيضاً قد يكون متعلّقاً بالملابس أو السيارات أو التكنولوجيا أو السياسة أو أيِّ مجال من مجالات الحياة الأخرى، في حين أنَّه يعرف اللغة العربية العامية بأنَّه الموضوع أو الحدث الذي يحظى باهتمام الناس خلال فترة زمنية معيّنة، وهو المرادف لكلمة موضة، التي في الكثير من المواضع.
ويشير الباحث أحمد التايب إلى أنَّ هذه الظاهرة أصبحت نمطاً من أنماط حروب الجيل الخامس يتمُّ استخدامها في الترويج للتوجهات المعادية من أجل تهييج الرأي العام، وإثارة حالة الاعتراض وعدم الرضا على مستوى الحياة أو الحياة بشكل عام ممَّا يؤثّر سلباً في النسيج المجتمعي، ويضعف من الانتماء والولاء للأفراد تجاه وطنهم.
مضيفاً أنَّ أخطر تداعيات هذه الظاهرة هو التأثير السلبي في خلخلة الأعراف والتقاليد المجتمعية، فشيوع بعض “التريندات” التي تستهدف مثلاً، الموضة العالمية من دون مراعاة لقيمنا المجتمعية، أو تستهدف الحرّية المطلقة للأفراد سواء في التحدّث أو التعبير عن الرأي بلغة سمجة مبتذلة، أو تستهدف تحرير العلاقة بين الشاب أو الفتاة تحت ذريعة الحياة الشخصية، فهذا كلّه يسهم قطعاً في كسر القوالب الاجتماعية لتصبح واقعاً شيئاً فشيئاً، في ظل انهيار منظومة القيم من ناحية وغياب دور المدرسة والأسرة والمجتمع من ناحية ثانية.
اضطراب التحكّم
من جهته، يقول الكاتب سامح عودة إنَّ التريند، أو الأحداث الأكثر تفاعلاً، تلك الثقافة التي أعلتها وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس، فصارت- كما تجعلهم على رأس الحدث- تحمل لهم حمّى التقاط هذا الحدث والتعليق عليه بأيّة صورة ممكنة، فلا يهم- في كثير من الأحيان- الدقّة ولا المصدرية ولا المعيارية في الحكم والتحليل، ما يهم هو ألَّا يفوتنا القطار من دون أن نُلقي فيه بحصيلتنا من الآراء والتقييمات.
كاشفاً أنَّه في العام 1996م، عرضت السيكولوجية الأميركية “كيمبرلي يونغ” دراسة متخصّصة بعنوان “إدمان الإنترنت.. ظهور اضطراب عيادي جديد”، وخلصت خلالها إلى أنَّ أفراد العيّنة من مستخدمي الإنترنت كانوا يعانون من الأعراض ذاتها المصاحبة للّعِب المَرَضي للقمار، فتقول إنَّه باستخدام هذه المقارنة بين اللعب المَرَضي للقمار وإدمان الإنترنت، فإنَّ الأخير يمكن تحديده بأنَّه حالة “اضطراب التحكّم في الاندفاعية” التي لا تطلب موادَّ مُسْكِرة.
هذا الإدمان السلوكي يتناوله الكاتب “إبراهيم السكران” في معرض تحليله لظاهرة اللهث وراء الأحداث الشبكية على مواقع التواصل، إذ يُضيّق نطاق الإدمان من الإنترنت بصفة عامة إلى إدمان الركض على مواقع التواصل على وجه الخصوص، فيقول إنَّ هذه الماجريات الشبكية قد تمكّنت من جرّ المتابعين إليها من خلال مجموعة من الآليات الجاذبة، أهمّها هو تسلسل التصفح. ولينجح هذا التسلسل، كما ورد في وثائقي “المعضلة الاجتماعية”(Social dilemma) ، فإنَّ شركات مواقع التواصل تهدف إلى جمع لا نهائي لبيانات المستخدمين من أجل توفير بيئة مُكثّفة من الإغراءات التي تُجبرهم على البقاء طويلاً على مواقعها، والتلاعب بهذه المعلومات من أجل تطوير التصفّح وجعله سلسلة حلزونية لا تنتهي، ففي كلِّ سحبة للشاشة بإصبعك ثمَّة جديد ينتظرك بمنشورات وصور ومقاطع مرئية غير التي رأيتها قبل دقيقة.
لذا، فإنَّ هذا التتابع السريع للروابط والأخبار والتعليقات على “التريندات” سيكون دائم التحديث، حتَّى لا يضعف إدمانك للتصفح، وذلك كلّه في عرض بسيط مُثير يتيح للمستخدم ما لم تكن تُتيحه له من قبل وسائل العرض القديمة: الفورية والتفاعلية، “فالمتابع بمجرّد أن يسمع الخبر سواء كان عالمياً أم محلياً تجده يسارع لفتح شبكات التواصل، لا ليبحث عن تحليل متخصّص، بل ليرى تعليقات الناس وردود أفعالهم، وقد ينخرط فيها، فتُثير التعليقات ردوداً، وردوداً على الردود، في متتالية تعليقية متناسلة لا تتوقف”.
وبالتالي، فإنَّ المجتمع استبدل، كما رأى “جي ديبور”، الوجود بالظهور، لأنَّ أحداً- في هذا السياق- لن يهتم بوجودك ما لم تكن على الشاشة أو في نافذة العرض. بكلمات أخرى، قد “بات الكثيرون يقيسون وجودهم ودورهم في الحياة ونجاحهم في عملهم أو علاقاتهم أو زواجهم أو في تربية أبنائهم بعدد مرات ظهورهم وظهور صورهم أو منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وعدد الإعجابات التي يحصدونها من متابعيهم، لذلك تراهم يتبعون أيّة موجة تحدث، فتجد لهم في كلّ “تريند” اسماً ورأياً ونقاشاً.
ويكمل عودة حديثه موضحاً أنَّ البعض يُرجع ظاهرة “التريند” إلى تحوّل عالمنا من مجتمع الوجود الإنساني المتحقّق بذات الإنسان إلى مجتمع صورة وفضائيّات ووسائط إعلاميّة ووسائل تواصل اجتماعي، الأمر الذي يدفع الناس لعرض ذواتهم على مواقع التواصل، بالمشاركة الدائمة والتعليق المستمر على كلِّ حدث، لا لشيء إلَّا لأجل هذا العرض، فأنت غائب عن الدنيا إذا لم تُعلِّق على هذه الحادثة أو هذا الشأن العام، لا يهم ما ستقوله لكن ما يهم ألَّا تسكت، لِمَ؟ لئلا تختفي.
التريند عراقياً
في محاولات كثيرة، سعى فنانون وأدباء أن يصبحوا ترينداً في العراق، وبالفعل وصل الكثير منهم، غير أنَّ هناك أسباباً كثيرة جعلت من بعضهم ترينداً ولم يصل آخرون لهذا التريند.
غير أنَّ ما حدث في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، جعل من التريند سيّئَ السمعة بمجرّد التحدّث عنه، فقد ظهرت شخصيات لا تمت لا للثقافة ولا للمجتمع العراقي بصلة، وأصبحت موضوع الساعة، ما أدّى إلى حصولها على (لايكات) و(تعليقات) و(شير) تجاوزت الملايين، وربّما يمكننا التحدّث في هذا عن نماذج كثيرة مثل أمِّ اللول ووردة العراقية وتيسير العراقية وأم فهد وغيرهنَّ الكثير.
ومن الملاحظ أنَّ بعض الذين يتحدّثون في الشأن الثقافي- من دون ذكر أسماء- وصل إلى التريند لأنَّه كما يدّعي يقدّم محتوى عن القراءة والفلسفة، إلى درجة أنَّه يدعى إلى مؤتمرات متخصّصة بالفلسفة، في حين أنَّ المعنيين بالفلسفة فعلاً لم يدعوا إلى مثل هذه المؤتمرات.. وحجّة الداعين أنَّهم يحتاجون إلى جمهور، حتَّى وإن لم يقدّم هذا الشخص أو غيره محتوى حقيقياً...
وفي ممارسة من أحد الأدباء، أنَّه ينتظر مسؤولاً جديداً للوصول إلى منصبٍ ما، حتَّى يبدأ من جهته بأن يروّج له بصفحات لا علاقة للمسؤول بها، ففي حادثة شهيرة، أصبحت إحدى المسؤولات في منصب ما ببغداد، فما كان من هذا الأديب إلاَّ أن أنشأ صفحة على فيسبوك باسمها من دون أن تعلم بأمرها، حتَّى بلغت هذه الصفحة مئات الآلاف من المتابعين الذين لم يكونوا يقرؤون إلَّا عن منجزات هذه المسؤولة، حينها انتبهت المسؤولة لهذه الصفحة وتواصلت مع المشرف عليها ودعمته بمبالغ مادية كبيرة من أجل توظيف أشخاص معه وفتح صفحات جديدة حتَّى أصبحت ترينداً حقيقياً في الساحة السياسية العراقية.
الأمر نفسه مع وزير آخر، فقد تم عمل أكثر من عشر صفحات باسمه على فيسبوك وتويتر وانستغرام، من قبل أدباء تمَّ دعمهم لاحقاً، فأصبح السيد الوزير ترينداً حتَّى هذه الساعة، مع الترويج الدائم.
في حين كان لبعض الأدباء الكثير من هذه التريندات، حتى أنَّ بعض الأدباء يتقصّد السباب والشتائم وإظهار لسانه البذيء في محاولة منه للحصول على متابعين أكثر لمعرفة لماذا يقوم بهذه الأفعال... وبالفعل وصل إلى مرحلة التريند واختفى وعاد بشكل جديد وهكذا...
مجتمعات متخيّلة
وفي تقرير موسّع لمؤسسة فكر عن التريند وتأثيره في العالم المعاصر، يطرح كاتبه كيف يبدأ التريند وكيف ينتهي: نهضت في صبيحة يوم ما وفتحت هاتفك لترى صورة يتكرّر نشرها في حسابات التواصل الاجتماعي، هذا يؤيد وذاك يعارض وآخر يسخر والرابع يشتم، في هذه اللحظة تماماً يقال عن تلك الصورة تريند. كلّ شيء قابل لأن يصبح ترينداً في هذه المواقع.
يمكن للأشخاص أن يتحولوا ترينداً في لحظة ما، إذ تضج الصفحات بذكر أحدهم لمدّة ما، يوهم الجميع ليدلوا بدلوهم ويعطوا رأيهم للجماهير الغفيرة، ولكن كيف يحدث ذلك؟ ولماذا تصبح قضية ما أو حدث ما ترينداً في لحظات ثم ينساه البشر في لحظات أيضاً، من هم أولئك الواقفون خلف الشاشات الذين يوجّهون الرأي العام للتركيز على ذلك الحدث أو هذا الشخص.
صناعة الأحداث
أظهر مسح أجراه معهد أكسفورد للإنترنت وجود حملات تلاعب في وسائل التواصل الاجتماعي في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع وهي 81 دولة، أمَّا الوسيلة التي ينفذ بها هذا التلاعب وفقاً لتقرير معهد أكسفورد نفسه فهو من خلال بث الحكومات والشركات والأحزاب السياسية معلومات مضلّلة على نطاق صناعي، فقد بات التضليل استراتيجية شائعة علماً أنَّ 93 % من البلدان نشرت فيها معلومات مضلّلة في المجال السياسي. يخبرنا هذا إلى أيِّ مدى بدأ التحكّم في الاتجاهات التي تشيع في مواقع التواصل والتي يسمّونها تريندات، فلا شيء في هذا العالم الافتراضي يحدث عبثاً وليست القضايا التي يتحدث الناس عنها كلّها قد نشأت ببراءة أولئك الناس. بعض هذه القضايا يخدم مصالح جهات معيّنة، ربَّما تجد حزباً معارضاً أراد حصد أصوات الناخبين قبيل الانتخابات، فماذا يفعل؟ المسألة سهلة، يمكنهم من خلف الستار الترويج لبعض الهاشتاكات العنصرية التي تحذّر من بعض اللاجئين والمهاجرين الأجانب، ويفعّل حسابات بشرية وحسابات روبوتات لتفعيل هذه الهاشتاكات، وحينها كما لو أنَّ الأمر صار اتجاهاً شائعاً يتحدّث عنه الكثير من الناس وكأنَّ المجتمع صار يتحدّث فجأة عن خطورة اللاجئين الذين يحتضنهم منذ سنوات من دون أن يشعر بخطرهم، وهنا تماماً يقع الكثير من الناس في الفخ، فيظنّون أنَّ هذا الزخم المتكاثر دليلاً على ضجر المجتمع من اللاجئين، وينضم بعضهم إلى تلك الجوقة المصطنعة، ويروّج إلى خطاب العنصرية، ويخدم من حيث لا يدري أجندة ذلك الحزب المعارض الذي لم يرغب بشيء أكثر من ضمان المقاعد في البرلمان. هكذا بكل بساطة يصنع الكثير من القضايا في عالمنا، ليس في مجال الانتخابات والسياسة فحسب، بل في كثير من التوجّهات الفكرية والأذواق الفنية والحملات التجارية. وإذا كنت تعتقد أنَّ التجّار وحدهم هم الذين يسوّقون منتجاتهم عبر مواقع التواصل فأنت مخطئ، فقد بات العالم ساحة لتجار الأفكار والشبهات والحملات السياسية. الجميع يريد صياغة الحدث بما يوافق هواه، وهدفهم الرئيس هو عقلك ووعيك أنت.
الذباب الإلكتروني
إذا كانت حشرات الذباب الحقيقية مزعجة وضارة في أحيان كثيرة، فإنَّ الذباب الإلكتروني يزيد عليها خطورة لأنَّه يستهدف الإضرار بوعي الإنسان وتضليله. والذباب الإلكتروني مصطلح يستعمل للإشارة إلى الحسابات أو الأشخاص الذين ينشرون رسائل دعائية أو معلومات مضلّلة على شبكة الإنترنت، وعلى وجه الخصوص على مواقع التواصل الاجتماعي. وغالباً ما تستخدم هذه الحسابات التي أشبه ما تكون بروبوتات بشكل ممنهج ومنسّق من قبل جهات معيّنة لتوجيه الرأي العام، وإذا تابعت بعض الحسابات ستجد أنّها تكاد تكون متطابقة المضمون، فلا أحد يقف خلف هذه الحسابات بل تأتمر جميعها بشكل أوتوماتيكي لجهة تحرّكها من خلف الكواليس، وربّما كانت الحرب على غزة خير دليل على ذلك، إذ يتكاثر الذباب الإلكتروني لمحاولة صرف المتعاطفين والمدافعين عنها عن الواجب المترتب عليهم، أو لإلهائهم بقضايا جانبية، فقد كشف تحقيق أجرته إحدى الشبكات المتخصّصة في الكشف عن الأكاذيب المتداولة عن شبكة كبيرة من الحسابات الوهمية التي تدعم إسرائيل وتدّعي أنَّها مغربية، وبعد تتبّع هذه الحسابات وارتباطاتها والمضامين التي تنشرها، اتضح أنَّها تستخدم لنشر رسائل مؤيّدة لإسرائيل ومهاجمة المجاهدين في فلسطين، وتحاكي في الوقت نفسه هويات مغربية بأسماء وصور مزيّفة.