هاروكي موراكامي حين نمتهن الرواية

ثقافة 2024/10/16
...

باقر صاحب 

لعلَّ من المفيد القول أن قراءة كتب سيريّة عن كتابة الرواية خاصةً والأجناس الإبداعية الأخرى عامةً ممتعةٌ تماماً،  لاسيّما أنّ الجانب الملاحظاتي  المشوّق يطرح أموراً كثيرة؛ حياة الروائي بكلّ ما يتعلق بالكتابة الروائية ذاتها،  واهتدائه إلى كتابة الرواية الأولى، ومعاناته في ترقّب النجاح والفشل فيها،  ومن ثم  كيف تترتب على ذلك استمراريته في الكتابة، وحصده الانتشار والجوائز الأدبية، ومن ثمَّ تتويج سني حياته بإنجازاتٍ روائيّةٍ كثيرة، إلى الحدّ الذي يشرع فيه بكتابةٍ سيرةٍ روائيةٍ تمتع القرّاء لأنّها كتابةٌ شيّقة عن ذلك الفن الصعب: فنّ الرواية، وعن كيفية اعتياش الروائي من رواياته، أي أنّ مهنته الوحيدة: الكتابة الروائية.

 شهرةٌ عالميّة 

أحدث كتابٍ صدر في هذا السياق “مهنتي هي الرواية” للروائي الياباني هاروكي موراكامي (1949 - )، الصادر عن دار الآداب- بيروت 2024 ، ترجمة : أحمد حسن المعيني.

 لاقت أعمال هاروكي موراكامي نجاحاً كبيراً، حصد من ورائها شهرةً واسعة، حيث كانت رواياته الأكثر مبيعاً على نطاقٍ عالمي، وتُرجمت إلى أكثر من 50 لغة.  وحاز  جوائز عدة؛  عالم الفنتازيا 2006 ، فرانك أوكونور العالمية للقصة القصيرة 2006 ،  فرانز كافكا 2006،  القدس 2009. ومن أبرز رواياته؛ 1Q84، جنوب الحدود  غرب الشمس،  الغابة النرويجية،  كافكا على الشاطئ،  سبوتنيك الحبيبة،  رقص رقص رقص، سنوات من الحج، عديم اللون تاراكي وسنوات حجه، نعاس، ما بعد الظلام...   

  مقالاتٌ سيريّة

 سمّى موراكامي كتابه “مقالات سيريّة”، وهو يقول أنّهُ كتب، بأكثر الطّرق عمليةً وواقعيةً، عن المسار الذي اتّبعه بوصفه روائياً، والأفكار والخواطر التي حملها معه في ذلك المسار الإبداعي، وهو مؤمنٌ بأنّ الكتابة عن السيرة الروائية لا يمكن أن تخلو من التعبير عن الذات. وهو لا يجزم بأن هذا الكتاب سيكون دليلاً إرشادياً للمبتدئين في كتابة الرواية، ومع ذلك فإن اراءه وملاحظاته في كتابة الرواية، ليست بالضرورة هي الطريقة الأمثل في كتابة الرواية. لا ندّعي الإحاطة بكلِّ ما ورد في كتابٍ مهمٍّ، لعشّاق الرواية خاصّة، لكنّنا سعينا إلى إبراز جوانب شيّقةٍ فيه. 

لحظات التجلّي

  كتاب موراكامي فيه تفاصيل ممتعةٌ عن تجربته الروائية منذ خمسة وثلاثين عاماً، منذ  سرده شرارة كتابة أولى رواياته، فعندما كان يشاهد مباراة بكرة البيسبول، كان أحد اللاعبين، قد أرسل ضربة قوية إلى يسار الملعب، فكانت لحظة تجلٍّ، قرّر فيها موراكامي؛ سأكتب رواية، فأمضى ستة أشهر، في الكتابة، على طاولة المطبخ، بعد عودته منتصف الليل  من عمله  في مقهى الجاز الذي يمتلكه. لكنّها كانت تجربةً مضجرة، على حدّ قوله، فسعى إلى إعادة كتابة الرواية، التي أصبح اسمها” أسمع الريح تغني”، باللغة الانكليزية، ومن ثم أعاد ترجمتها إلى اليابانية، والحصيلة؛ كانت جمل الرواية  قصيرةً خاليةً من قيود الزخرفة. قد يكون نجح في ذلك، ولم يتأتَّ له، التأكد من ذلك، إلاّ بعد أن أرسلها للمشاركة في مسابقة الكتّاب الجدد، وحين كان رفقة زوجته يتنزّهان، عثر في الطريق على حمامةٍ مصابة، وحين أمسكها، جاءته لحظة التجلي الثانية، بأنّه سيفوز بجائزة في تلك المسابقة.  

  شخصٌ عادي جدّاً

يعترف موراكامي بأنّه شخصٌ عاديٌّ جداً استطاع الاستمرار في  كتابة الروايات لعقود. ومع عزيمته القوية كان محظوظاً نوعاً ما، هو يمتلك حسّ الدهشة وقدرته في الحفاظ على نقاء هذا الحسّ طوال تلك السنوات. 

فكان أهمّ ما يتحدّث عنه موراكامي، في هذا الكتاب، القدرة على الاستمراريّة في كتابة الروايات، ويصف الروائيين، على وفق ذلك، بأنّ لهم صدراً رحباً في استقبال أيّ روائيٍّ جديد، واصفاً عالم الروائيين بأنّه أشبه بحلبة مصارعة، فحين يقدم روائيٌّ جديد، يقول له السابقون” لا بأس، تعال وجرّبْ حظك”. وهنا يعترف موراكامي بأنّ العجز عن كتابة روايةٍ جيدةٍ في أول الشوط أمرٌ طبيعي، وأنّ على المرء، في البداية أن يكتب أيّ شيء، خلوٍ من تحديدات الرواية والأدب، فيقول لنفسه” دوّن مشاعرك وأفكارك كما تطرأ لك، بحريّةٍ، بطريقةٍ تحبها”. فهو يعتقد “أنّ الروايات لا بدّ أن تخرج في تدفِّقٍ عفوي”. موراكامي في يوميّاته، لا ينفكّ عن طرح كونهِ متواضعاً، فلا يعدُّ نفسه عبقرياً، ولا يمتلك موهبةً من نوعٍ خاص، لكنّه لا يخلو من قدراتٍ مكنّته من العيش من رواياته طوال تلك المدة، مع إيمانه بأنه يمتلك قدراً غير يسيرٍ من الحظ، جعله يمضي بسعادةٍ وهو يكتب رواياته.  

الأصالة في العمل الروائي

اهتمّ موراكامي بقضيّة الأصالة في العمل الأدبي، وحدّد ثلاثة معايير لها، منها امتلاك أسلوبٍ فريدٍ ومتفرّد، يمكن رصده منذ العمل الأول. وأنّ ذلك الأسلوب يمتلك القدرة على تحديث نفسه، أي الاستمرارية في النموّ والتطوّر، فلا يراوح صاحب العمل الأدبي في مكانه. كما أنّه لا بدَّ أن يندمج بمرور الوقت في ذهنيّة المتلقي، حتى يصبح جزءاً من معاييره في الحكم والتذوّق. ويخلص إلى أنّ عمل المبدع وأصالته يعتمدان على اختبار الزمن، إلى حدٍّ كبير. ومن ثمّ يطبّق موراكامي هذه المعايير، على منجزه الروائي، فعلى سبيل الاستمراريّة في التطور، يذكر أنه بدأ بأسلوبٍ بسيطٍ خفيفٍ غير متكلف، ومن ثمَّ أخذ يطوّر أسلوبه في الأعمال اللاحقة، فيقول” رحت أدعمها على مراحل، فاجعلها ثلاثية الأبعاد متعدّدة الطبقات أكثر، إلى أن اشتدَّ عودها بما يكفي لكي تحتمل التعقيد اللازم في الروايات الطويلة”. كما أنّ الأصالة، بحسبه، تنبع من مبدأ الحرية، فهو لم يكن قد خطّط لأن يصبح كاتباً، ولم يفكّرْ جيّداً في نوع الرواية التي سيكتبها، فهو إذاً متحرّرٌ من كلِّ قيد. فالأصالة برأيه هي” الشكل الذي ينتج عن الدافع الطبيعي لإيصال ذلك الشعور بالحرية، وبالمتعة غير المقيّدة”، كما يقرن الأصالة بالحالة العاطفيّة، أي كلّما جلس لكتابة رواية، يحاول أن يتحصّل على تلك الحالة، فتبعث فيه شعوراً منعشاً رائعاً، بجدّة يومه واختلافه عن يومه الذي سبقه.   

ماذا نكتب في الروايات؟

يجيب موراكامي عن هذا السؤال، وعن ماهي الشروط الواجب توفّرها لكي يصبح المرء روائياً، مثلاً التدريب المُسبق والعادات الشخصيّة، فيجيب بما معناه، أنّه لم يكن يخطّط أن يكون روائياً، ولم يدخل في ورشٍ تدريبيةٍ لتعلّم الرواية، بل أنّ” الأحداث تسير وفقاً لمسارها الخاص وتجرّني معها”. لكنَّ من نصائحه للروائيين المبتدئين أن يقرأوا أكبر عددٍ ممكنٍ من الروايات، وأن يحرصوا على تغذية نظرتهم للأشياء والأحداث بتفاصيل أكبر، ومعاينة ما يدور حولهم والناس الذين يقابلونهم بأكبر قدرٍ من الانتباه والعمق. وأن يحرصوا على ألاّ يبنوا استنتاجاتٍ فوريّةً بشأن تلك التفاصيل، فإصدار الأحكام السريعة بإقرار الخطأ والصواب بشأنها من اختصاص النقّاد أو الصحفيين أو الأكاديميين إلى حدٍّ ما. على الروائي أن يطرح مع نفسه مثلاً” المسألة تبدو هكذا فعلاً، ولكن مهلاً، لعلها مجرّد فكرةٍ مسبقةٍ عندي، وينبغي لي أن أتفكّر أكثر. ففي نهاية المطاف، الأشياء ليست بسيطة، كما تبدو في الظاهر. قد يطرأ شيء، وتصبح القصة شيئاً آخر تماماً”. يتحدّث موراكامي عن التفاصيل، ويخصّ بها، التي تكون مذهلة، بحيث تجبرك على أن تعدّل جلستك وتثبّت نفسها في عقلك، ويفضّلها موراكامي على هذا النحو، أن تكون غير منطقية، وتتعارض مع تدفّق الأحداث تدفّقاً سلساً، أو تغرينا بأن نشكّك فيها، ونضفي شيئاً من الغموض عليها. نلملم تلك التفاصيل، ونعنونها بملصقٍ بسيط، أي اسمٍ لمكان أو وقتٍ أو حالة، كي نؤرشفها في خزانةٍ من عقلنا. وهنا لا يحبّذ موراكامي حمل مفكّرةٍ  في كلّ مكان. 

سؤال عمّاذا نكتب  وضع  موراكامي  أمام خيار كتابة رواية عن لا شيء، أو كما يقول عن” عدم إيجاد شيءٍ أكتب عنه”، وتحويل هذا إلى سلاحٍ من التحدّي، به يقوى على مجابهة  من سبقوه من الكتّاب. 

 كيف أؤلف رواياتي؟

يتحدّث موراكامي تفصيليّاً عن الكيفيّة التي يؤلف بها رواياته، فما هو مختلفٌ في كلِّ روايةٍ جديدة؛ المحتوى، طريقة الكتابة، المكان، المدّة الزمنية للإنجاز، وما هو ثابت؛ سلسلة الخطوات، القواعد التي يتبعها، وغير ذلك. معادلة المختلف والثابت تدفعه إلى وضع وتيرةٍ ثابتةٍ في حياته وعمله. من أهم خطواته الثابتة في الكتابة؛ التفرّغ الذهني التام لكتابة الرواية وإيقاف جميع المشاريع الأخرى ما عدا الترجمة، فهي تساعد على إحداث توازنٍ ذهني، السفر خارج اليابان لإنجاز رواياته، حيث يستطيع التركيز على عمله، وتقرير عمله اليومي وتحديد الجدول الذي يسير عليه لأجل الإنجاز. يستشهد موراكامي بالكاتبة الدنماركية إيساك دنسن، التي تقول” أكتب القليل جدّاً كلّ يوم، من دون أمل ومن دون يأس”، هو كذلك التزم على نفسه أن يكتب كلّ يوم عشر صفحات، عبر طقوسه المعتادة، الاستيقاظ مبكّراً كل صباح، وتجهيز إبريق قهوة طازجة، والعمل أربع أو خمس ساعاتٍ يومياً، وبحسبان عدد الصفحات في الشهر، وفي ستّة أشهر، يكون قد كتب 1800 صفحة، وهكذا أكمل مسودة” كافكا على الشاطئ” ، بهذا القدر من الأشهر. يجري موراكامي دائماً، إعادات  عديدةٍ للمسودّة. بعد أن يريح نفسه أسبوعاً، تبدأ الإعادة الأولى، وفي هذه المرحلة يجري تعديلاتٍ كبيرة، لا يبقي شيئاً على حاله، ويستمرّ ذلك شهراً أو شهرين، يستريح بعدها أسبوعاً آخر، وفي هذه المرّة يركّز على التفاصيل، وضبط نبرة الحوارات، والحرص على تماسك الحبكة، وتدفّق السّرد تدفّقاً طبيعياً. في الإعادة الثالثة، يجري التعديلات النهائيّة على الرواية، وبحسب قوله الطريف” أشدُّ برغيّاً هنا، وأرخي برغيّاً هناك. كي أحافظ على تماسك النص”.

 صناعة الشخصيات 

يقول موراكامي بالظهور العفوي لشخصيات رواياته، أي عدم إقراره المسبق باستخدام شخصيّاتٍ مُعيّنة، ففي أثناء الكتابة يتشكّل ما يسميه” المدار الذي يفضي إلى ظهور شخصيّاتٍ بعينها”، فيعمل على إضافة التفصيل تلو الآخر، فتتجلّى صورةٌ عامّةٌ للشخصية. لا يستخدم ملمحاً من شخصٍ حقيقي، وإنما يستعيد، من دون وعي، معلوماتٍ وشظايا عديدةً من خزائن دماغه، ومن ثمّ ينسجها. وعلى وفق ذلك، فإن المسودّة الأولى ليست مُرتّبةً جدّاً، وإعادة الكتابة تجعلها أكثر وعياً ومنطقية. ويقرُّ بأن النموذج الأولي تتمّ صناعته وفق عمليةٍ غريزيةٍ لا واعية، لأنّه إن لم يعمل وفق ذلك  تُولد شخصيّاتهُ ميّتةً وغير طبيعيّة . 

اختيار الشخصيات يتوجّب معرفة إناسٍ كثيرين، والنظر إلى مظاهرهم ومراقبة أحاديثهم وتصرّفاتهم وسماتهم الخاصة، من دون أختيار من يستحقّون التأمل بنظر الكاتب، أي أن اختيار الأشخاص الذين يلفتون نظرك أو تستطيع أن تفهمهم بسهولة فقط، يجعل الرواية مفتقرةً إلى الشمول. إذ يجب اختيار شخصيّاتٍ مختلفة، الأمر الذي” يحرّك الأشياء ويدفع الشخصيات إلى الأمام”. في بداية مشواره الروائي، لوحظ على هوراكامي أن رواياته لا تحتوي على شخصيّاتٍ سيّئة، عالج هذا الأمر، لكن لم يسرْ بصورةٍ صحيحةٍ إلاّ في سنوات نضجه الكتابي، واكتناز تجربته في الحياة.