رنا صباح خليل
رواية (انصتوا لهزائمنا) للوران غوديه وترجمة أيف كادوري، حازم عبيدو، تناقش وتفلسف وتدين الانتصارات المتحققة في المعارك التي تخوضها البلدان بقيادة حكامها، الحروب التي تظلُّ قائمة ويجب لها أنْ تُكسبَ من دون لبسٍ وهي تطحن مئات الآلاف من حيواتٍ ذبحت بعضها على مرّ الأزمان والعصور فوق هذه البقاع أو تلك، والسؤال الذي يطرح على مدار الرواية هو ما الذي بقي من كل ذلك؟ في مناقشة تطرح تساؤلاتها وتجيب عن طريق التاريخ وتراثه وما خلفه في متاحفه ومعابده وتحصيناته وتدوينه لكل حقبة عرفت اضطراباتٍ ودسائسَ ومعاركَ ظاهرها انتصاراتٌ وفي خفاياها تكمن مصائر خاسرة عمل منشئوها على إنقاذها من الدمار وكأنها الجزء الذي ليس للهزيمة أي سلطان عليه، وهو صنيعة للأبدية التي تتغذى على الغطرسة والكراهية للإنسان والذين عملوا على إدامتها كانوا يحرقون ويقصفون ويبيدون كل ما هو جميل على وجه الأرض، كان ذلك في مدنٍ دُمِرت وبقيت آثارها يعجّ بها التاريخ الذي لم يتمتع بالقدرة على محوه مفتعلو الحروب.
أحداثٌ صنعت سرديتها داخل الروي
اعتمد الروي على التاريخ في بث سردياته مركزاً على أفول الامبراطورية الرومانية وما خاضته من حروبٍ حققت نهايتها كامبراطورية مستقبلاً. مبتدئاً بالقائد هنيبعل الذي هزم شعبه شعوبَ الأولكاد والفاكسيين والكاربتيين وموحدين هسبانيا وهو الآن قائد جيش قرطاجة الذي عبر بجيشه المكون من خمسة عشر ألف رجل جبال الألب القاسية ببرودتها من أجل الإطاحة بروما، وتستمر السرديَّة في النبش عبر التاريخ لتعرض لنا هيلا سيلاسي حاكم اثيوبيا ومصرع حكمه ونفيه بعد أنْ خسر الحرب مع إيطاليا، أما القائد الثالث الذي رسمت الرواية مشهدية دوره وهزائمه فهو أوليس غرانت الذي لقب بالجزار نتيجة الخسارات التي مني بها وأودت بأرواح الكثيرين وهو يعدّها انتصاراتٍ محققة حتى وإنْ سقط فيها خمسة عشر ألف رجلٍ من جنوده، حتى وإنْ كان بعضهم مصابين ومحتضرين يئنون، فالأمر الوحيد الذي يحسب حسابه هو أنَّ خصمه بوريغارد سينسحب وغرانت الجزار يتقدم لا يهم وإنْ كان وسط الجحيم بما أنَّ الحرب قائمة، فينبغي أنْ تُكسب لصالحه.
عمل الروائي على ربط الأحداث التي سيتم الحديث عنها بصورة متناوبة ليأخذ كل حدث عنواناً خاصاً به وكانت أغلب تلك العنوانات بأسماء المدن التي ستدار رحى المؤامرات والحروب فيها، أما بناؤه الفني فقد دعمه بتعدد الشخصيات، إلا أنَّ الرواة الحقيقيين ثلاثة وهم الراوي الخارجي الذي يعلم أكثر من الشخصية المحورية عن الرواية لكنه ليس جزءاً منها وشخصيتا عاصم ومريم وهما رواة داخليون وتقع على عاتقهما مهمة الكشف والإخبار وتتبع الحدث، وقد اعتمد الروائي على اللغة التي تعمل في اشتغالها على نبرة دافئة حيناً ومتوثبة قاتمة مضطربة حيناً آخر، وما يلفت الانتباه أنَّ المترجمين راعيا ذلك وأبدعا في صياغته بصورة دقيقة وافية تمكن القارئ من أنْ يمنح اللحظة الراهنة إمكانية التأمل كما يشحن تجارب التاريخ بما يثبت أنه ليس هناك حدودٌ واضحة تفصل الانتصار عن الهزيمة، وهو أمرٌ يؤكد ترابط الأزمنة في صيرورة تعبر عنها الرواية بحرارة الراهن، الذي يتمثل فيها بأزمنة سقوط الأنظمة العربية في الربيع العربي وصولاً الى ظهور داعش وتدميره لمتحف الموصل.
أما كيفيَّة نشوء فكرة الروي فقد حددتها المصادفة التي تحققت في لقاء يجمع عاصم (عميل الاستخبارات الفرنسيَّة) ومريم (الآثاريَّة العراقيَّة)، في فندقٍ يقع في مدينة زيورخ السويسريَّة، وسرعان ما يتكشف الوهن الذي يكتنف حياتيهما. عاصم ينتابه السأم، ورغم نجاحه في المهمات التي أوكلت إليه كان يشعر بالهزيمة العميقة في داخله: “ثمة شيء مختلفٌ في داخلي أعجز عن تسميته، لا يكف عن أنْ يتسع ويمتصني. أعرف أنَّ ذلك غير بادٍ بعد وأعرف أنه، بعد بضع ساعات، سأكون أمام أوغست كما كنتُ دوماً: عاصم غريب. سأحمل مجدداً هذا الاسم الذي ليس لي لكني اعتدته، عاصم غريب، العميل السري منذ أكثر من عشر سنوات لدى الاستخبارات، عاصم غريب، الذي يحصل حين أنْ أصادف بعضاً من أولئك الشبان المستجدين، في شارع مورتييه، في باريس، أثناء احتفال رسمي، ينظرون إليَّ بوقارٍ لأنهم من دون أنْ يعلموا تماماً ما فعلته يعرفون قائمة ميادين العمليات التي أُرسلت إليها: أفغانستان، الساحل الإفريقي، ليبيا، العراق، وهذا يكفي لإبهارهم. عاصم غريب الذي يدعونه في ما بينهم «الصياد» ومعهم حق، فمن كثرة العمليات التي قمتُ بها طوال كلّ تلك السنين أصبحتُ صياداً في المحصلة، قاتل الجمهوريَّة الذي لا يكف عن ملاحقة رجالٍ جددٍ. بالنسبة لهم جميعاً، سأظل هذا، لأنّ عاصم غريب بنظرهم لا يزال حياً، وعلى حاله، لكنّي أعرف أنَّ ثمة شيئاً يكبر ويغيرني وربما ذات يوم سيفغر مثل فم داخلي هائل ـ ومن يعلم حينها ما الذي سأفعله”(1) .
أما مريم فلم تكن أفضل حالاً من عاصم في ضياعها وهي تعمل على إنقاذ القطع الأثرية في أكثر بقاع الأرض توتراً، حيث تستحكم الهمجيَّة ويصعب تفادي الهزيمة فيها حين تقول: “ سأعود إلى حياتي، إلى عملي في المتحف البريطاني، ومواعيدي في اليونسكو، وتقارير الخبرة التي أعدها للإنتربول، إلى حياتي كآثاريَّة راكضة وراء العديد من القطع المسروقة. سأعود إلى ليالي المكتنفة بالخوف الهائل، إلى اللحظات التي سأعجز فيها عن منع نفسي من التفكير بالمرض”(2) .
لا تنفك الرواية عن مناقشة موضوعة الانتصار والهزيمة في إدانةٍ قاسيةٍ لروائح التاريخ المضمخة بالقتلى الأبرياء إرضاءً لطموحات الحكام والقادة في مونولوجات كثيرة أفصحت بجزالة عن طريق مريم أو عاصم وهما يدليان بكل الجرائم التي حدثت أمام أعينهما وما بثه التاريخ ويعلمانه من خلال الكتب في ما يخص القناصل الرومانيَّة أمثال فارو وبولوس اميليوس، أو بذكرهم للأبطال الموهومين أمثال كايل الامريكي القناص الذي قتل مئة وسبع عشرة ضحية ومادوكس الذي أجبر من أخفوا صدام حسين على الاعتراف بمكانه وفي النهاية قُتل أحدهما وهو مادوكس على يد أمريكي آخر بعد أنْ خدم دولته بجديَّة تامَّة، وما كان عاصم الغريب في إفصاحه عن كل ذلك إلا محاولاً الإجابة عن التساؤل الصعب فيما اذا كان يشعر بالانتصار وهو سؤالٌ ظل رفيقه جوب يطرحه عليه بعد قيامه بأي مهمة يكلف بها، لنتوصل بعد أنْ يثبت لنا في النهاية إلى أنَّ الانتصار أو الهزيمة يخضعان في الغالب للمصادفة، طالما لن تكون المحصلة النهائيَّة سوى موتٍ وصدوعٍ وإبادة شعوب، ما يجعل الانتصار - أي انتصار - هشاً أو مرحلة من مراحل إنضاج الهزيمة التي لا فكاك منها أمام الذات، وأمام الزمن. وبالتالي لا يكون مبرراً لنا التساؤل إلى أية هزائم تهيئنا انتصاراتنا؟ وكيف يمكن أنْ نعانقها إذا بدا واضحاً زيف ما عداها؟
---------------------------------------------
الهوامش:
1ـ صفحة 12 من الرواية.
2 ـ صفحة 29 من الرواية.