جمال العتابي
تكمن إشكاليّة التعارض في غياب التجانس الاجتماعي بين فئات المجتمع، وتبلغ التجاذبات في مستوى الكم والنوع مبلغاً من التعقيد في الأدب والفن، حداً يستحيل معه إصدار حكم عام بشأنها إلا إذا قمنا بتحديد دقيق للمجال الذي تنطبق عليه، وإعادة توجيه البوصلة وضبطها على إيقاع الطرفين الأساسيين في العمل الفني: أولهما خالق العمل الفني نفسه، أعني الفنان أو الأديب، وثانيهما "المتلقي" متذوق العمل، أعني الجمهور الذي يتوجه إليه العمل، فلا بد من معالجة منفصلة لقضية الكم والنوع بالنسبة لطرفي المعادلة وإعادة رسم الخطوط العريضة للخطاب الثقافي، انطلاقاً من معرفة دقيقة لطبيعة الجمهور الذي يستهدفه.
الإشكالية الأولى تتعلّق بالإنتاج الذي لا ينقطع للفنان أو الأديب، ولهذه الظاهرة أسباب متعددة، منها افتقار الميدان الفني والثقافي الى العدد الكافي من المنتجين المبدعين، أو منها السعي نحو المجد أو الثراء الشخصي عبر رفع كمية الإنتاج وزيادته. وسواء أكان السبب هذا أم ذاك، فما زال عدد غير قليل من المثقفين يقيس قدرة المؤلف في أي ميدان بمقدار إنتاجه، وما زال عدد آخر من الكتّاب والفنانين يقيس قدرة المنتج بالمقدار، ويظنون أن إغراق الأسواق بانتاجهم هو أفضل وسيلة تحقق لهم الشهرة وعلو المكانة في الأوساط الثقافيَّة. ويكاد البعض يحتكرُ هذا الميدان الحيوي من دون إتاحة الفرصة لغيرهم الإنتاج فيه، حتى أصبحت هذه القضية من أعقد المشكلات وما يستتبعها من ضعف في مستويات الإنتاج، وتبدو المشكلة أوضح وأفدح بكثير، إذا ما تكررت على الدوام الأسماء والوجوه نفسها، ما دام انتاجها مطلوباً بلا انقطاع، فإنّها لا تبذل أية محاولة جادة في تنويع أسلوبها أو تجديد فنّها أو النهوض بمستواها، إذ يمكن القول إنَّ هناك احتكاراً حقيقياً للإنتاج الفني في هذا المجال، يؤدي إلى زيادة انتاج البعض إلى حد الإفراط الشديد، وعجز الآخر عن الحصول على "جواز مرور" يتيح لهم اختراق الحاجز الكثيف الذي فرضه الأولون على الميدان الإبداعي.
ولا جدال في أنَّ الأمور ستظل تسير في هذا النهج إلى أن تتسع قاعدة الإنتاج الأدبي والفني إلى الحد الذي يكفي لاستبعاد العناصر الضعيفة أو المستغلة من هذا المجال، إلا أن المشكلة أخذت منحى آخر أشد خطورة في عصر التكنولوجيا الحديثة، وانتشار وسائل الاتصال أو "السوشيال ميديا" وغياب شروط النشر، مما أتاح الفرصة للمبتدئين في مجال الثقافة التعجل في نشر نتاجاتهم الرديئة، مع تفاقم ظاهرة التزوير والسرقة والسطو على الأعمال الفنيّة، والآثار الأدبيّة، وبظل فوضى الكتابة تصاعدت أعداد الكتّاب والمؤلفين في شتى الاختصاصات وعلى مستويات مختلفة، في التشكيل والموسيقى، وغيرها في ميادين أخرى، أصبح من السهل على الطارئين أن يقدموا أنفسهم كروائيين وكتاب قصة، ورسامين، من دون موهبة حقيقيّة أو تحصيل دراسي، هؤلاء يتقدمون الصفوف في ظروف شاذة لا علاقة لها بالإبداع الأصيل.
التهافت على الإنتاج السريع، لا يفرز إلا أعمالاً فاقدة للحياة، ميتة، واتساع قاعدة الإنتاج مرتبط أوثق الارتباط بالظروف العامة للبلاد، الخطورة فيه أن هذا الفضاء خلق لنا أبطالاً وهميين نشروا التخلّف وأشاعوا القمع والإرهاب. وفي حال غياب المنافسة الحقيقيّة يدفع هؤلاء حتماً إلى الابتذال وهبوط المحتوى والمعنى. وعلى الأغلب تلقى الأعمال الهابطة رواجاً وقبولاً لدى الجمهور المتلقي، ولهذه الظاهرة تعليلات واضحة، لأنَّ العمل التافه يتعمد اثارة الجمهور في موضوعات لا تتطلب مجهوداً ذهنياً عالياً، بل تربك الذائقة، ولا تصنع مبدعاً، لأنه عابر وزائل. بالرغم من أن العالم الافتراضي أصبح اليوم حياة حقيقيّة وعالماً موازياً تماماً للعالم الواقعي ويضاهيه في تفاصيله.
خلاف ذلك، فإن أي مسعى للنهوض الحقيقي في شتى مجالات الابداع متصل بالنهوض العام في حياة المجتمع، فالآفاق البعيدة للمتعة الجمالية بما تقتضيه من جهد وتركيز ذهني لا تتيسر للجميع، فالمتلقي يؤثر الراحة ويفضل المتعة السطحية بجهد قليل على متعة عميقة بجهد كبير، ومن هنا كان رواج الأعمال المبتذلة وانتشارها على أوسع نطاق بين الجمهور.
الواقع نفسه يثبت أنَّ الثقافة التي يغلب فيها الكم على الكيف لا تحمل قيمة إنسانيّة نبيلة، ثقافة تخدّر حواس الانسان وتشلّ تفكيره، وتبدد طاقته. مثل هذه الثقافة - إن كانت تستحق هذا الاسم- تزدهر حين تكون قيم السوق هي المتحكمة، أما الثقافة الرفيعة فلا بدَّ لكي تزدهر من رعاية يكفلها سيادة قيم إنسانية تعلو على دوافع الربح وتتجاوز عوامل العرض والطلب.
لا شكَّ أنَّ التعارض الشديد بين الكم والنوع مرتبط بشكل ما بالتخلّف الثقافي تكون فيه النخبة هي وحدها القادرة على فرز الأعمال ذات المستوى الرفيع، والغالبية من المتلقين ليس بمقدورهم التذوّق إلا بالأعمال السطحيّة، في مثل هذا المجتمع المتخلّف تتعقد إشكالية الكم والنوع بشكل حاد، ويكون الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيفين القادرين على الخداع بثقافة تتملّق غرائز الجمهور.
علينا أن ندرك أن الهدف النهائي للجهود الصحيحة في هذا الميدان ينبغي أن يكون عبور الفجوة الكبيرة بين الكم والنوع ورفع التناقض بينهما، بحيث لا تعود المسألة متوقفة على إرادة المنتج الثقافي أو استجابته، بل تغيير الجو المعرفي - الفكري ذاته، بما يحتّم حدوث هذا التحول الذي يحتاج متسعاً من الوقت لينضج في رحم الوعي، لذلك فإنّ ولادته لن تتم إلا بعد اكتمال عناصره الجماليّة والفكريّة.
إنَّ ثقافة الكم لا تبني وطناً، ولا تخلق إنساناً متحرراً من معوقات النقد، قادراً على التفاعل مع عصر المعرفة بذهن متّقد.