زهير الجبوري
تُعَدُ تجربة التشكيلي العراقي المغترب يحيى الشيخ واحدة من التجارب التي تُثير الأسئلة تجاه ما يفكر به وما يقدمه من أعمال تتمحور في ثيمة الجسد. وللجسد اشتغالات عديدة ورؤيا واسعة لكل من يمضي قدما في العمل عليه في مشروع فني، لذا كان للفنان الشيخ المخيال الخاص والدقيق في هذا الموضوع، ما يمكن الأمساك به في أعماله أنه رَحَّلَ القيمة الجمالية للجسد إلى مناطق أبعد ما يمكن الأمساك به في عالم الألوان والتخطيطات وما يرافق ذلك، فكانت تناولاته في ثيمة الجسد يُعد "إيقونات" تأخذ على عاتقها مضامين معرفية/ دينية/ مثيولوجية/ وبيئية، وهذا ما جعله أكثر تميزا من ناحية الأخذ بالأشكال بوصفها تحمل منظورا له جذره المعرفي.
ولأن الفنان ابن بيئة عراقية جنوبية ـ في الأصل، فقد اعطته السّمة التي يمكن أن تكون هويته في عالم الفن التشكيلي، بخاصة أن هذا المكان له جذر طقوسي لأديان سابقة "المندائية"، ما جعل الجانب العرفاني له التأثير الكبير في ذلك، بمعنى وجود وظائف عديدة تؤدى، لكنها وظائف ذات بعد جمالي، ولا أريد الغور في التفاصيل الأولى للفنان لتشعبها، غير إنه منذ منتصف العقد التسعيني من القرن الماضي هاجر البلد واستقر في بلدان أوروبية وعربية عديدة، فتحت له ذهنية واسعة في الإطلاع والممارسة، وكذلك الجانب الأكاديمي حين أكمل دراسته وحصل على الدكتوراه ليمارس التدريس في هذا الاختصاص. ولعل هذا الانفتاح اعطاه علامة كبيرة في فتح شفرات الفن التشكيلي لمجتمعات متنوعة، لتكون لديه احترافية خاصة وأبعاد جمالية عالية في الأداء والدقة والتصور، ما جعل الكثير من النقاد أن يتناولوا تجربته من زوايا عديدة، إلاّ أني أجده لا يحب الانفصال عن جذره الأول وتكوينه الشرقي.
التشكيلي يحيى الشيخ، ينظر إلى الجسد بوصفه علامة معرفية، أو تكوين حياتي أدائي يحمل مواصفات بيئية خاصة، فتنوع في الاشتغال على هذا الإطار، فحين نشاهد في إحدى لوحاته جسد نصف المرأة العاري وبروز ثدياها، وفي أسفل اللوحة مجموعة من الشخوص المكثفة بطريقة تجريدية يتقاتلون عليه، إنما هو إيعاز لقراءة الجسد الأنثوي بوصفه مبعث الرغبات ومبعث الاحتدامات، وهي قراءة موضوعية (إنثروبولوجية) اجتماعية وسياسية قد تنحصر او تتكاثر في المجتمع الشرقي على وجه التحديد، وكذلك اللوحة التي تحمل شكل المرأة بجانب الرجل (ذات البعد المثيولوجي)، تأخذ على عاتقها علامات الخصب والانبعاث الوجودي للحياة عبر رمزية (الرجل/ الملك) و(المرأة/ زوجة الملك)، وقد تكون هذه واحدة من أهم القراءات في الفن التشكيلي المعاصر، بل تحمل البعد الجذري لعوامل الحياة القديمة المستعارة عبر التشكيل، وهنا تبرز وظيفة الفنان في الأخذ بكل الاستعارات المقروءة في الأساطير والملاحم وباقي القصص المثيولوجية الشرقية لتقديم عمل بالمواصفات التي شاهدناها، مع القدرة الفائقة في استخدام الألوان وكل ما يتعلق بعالم اللوحة.
أيضا نمسك بتجربة الفنان في اشتغالاته لثيمة الجسد ما تنطوي عليه جدلية الحضور وكيف لهذا الحضور أن يكون معبرا للطقوس وكل ما تحتويه من رمزية عالية في الأخذ بالعلامات المشتركة (الشمس، الطيور، الحيوانات، الطواطم)، قد افاضت الكثير في جدلية اللوحة وما تحمله من قصدية غاية الأهمية، بمعنى هناك تناغم نسقي بارز في المضمون استطاع الفنان أن يدرك ماهية الأداء الانشائي الذي يكمل اللوحة، وكيفية استهاض الجسد بوصفه علامة لها دلالات موضوعية، ومن خلال المسوغ البصري وتناغم الأشكال في لوحات الشيخ، فهي في ذات الوقت تعمل على ابعاث رسالة جمالية، فالألوان والخامات والأسلوب الذي نهجه، كلّها تؤدي إلى وحدة عمل متكاملة، حتى في اشتغالاته في (الأكرلك)، وحضور الشكل المعمول، يأخذ على عاتقه ماهية الأداء من الناحية الأنشائية (اولا)، ومن المادة المعمول بها (ثانيا)، لذا كانت العديد من الّلوحات المعبرة عن وجود قضية مررها عَبرَ الشكل/ الجسد، كالّلوحة التي شاهدناها للرجل الذي يفتح ذراعية "مرسومومة بمادة الأكرلك" وفي صدره ورأسه بقعة حمراء دلالة على الاستشهاد، كذلك في لوحة أخرى يظهر الرجل الذي يحمل صاحبه الذي سقط في الأرض شهيدا، هنا بالذات كانت لطبيعة الجسد وظيفة جمالية موضوعية، أخذت على عاتقها فعل الرغبة في تمرير ما يصبو إليه الفنان من موضوعات هائمة وهائجة الصراع الدائم للبشرية.
الفنان التشكيلي يحيى الشيخ، استطاع أن يشكل حضوره في الساحة العربية عبر تواصله المستمر في ممارسة الفن، وفي الجانب التدريسي الذي أعطى له هوية مضافة لفنه، وما كانت رسالته التشكيلية التي قدمها منذ عقود سوى مراحل ابداعية متراكمة انطلقت من جذره الجنوبي في مدينة العمارة. ويحسب له أنه أخذ كلّ جوانب حياته الإبداعية بتأطيرها زمنيا والأخذ بكل مرحلة بهوية خاصة بها، بمعنى أنه مبدع في مجالات أخرى في كتابة الشعر وما قدمه من نتاجات عديدة لإصدارات متنوعة، كذلك في كتابة السيرة، والذي يعد من أروع كُتب في هذا المجال لما يمتلكه من شاعرية الكتابة وفنية الأداء، وكلّ ما يمكن الوصول إليه أنه أمسك بتجاربه الإبداعية على درجة عالية من المستوى الإبداعي.