النظام المزدوج بين التصويت الشعبي وخيارات النخبة

قضايا عربية ودولية 2024/10/27
...

  جواد علي كسار



ليس اكتشافاً القول إن الانتخابات الرئاسية في أميركا هي الأكثر تركيباً، بل الأعقد بمقدماتها وأدواتها وآلياتها، كما هي الأطول في خط سيرها ومدارها الزمني. فهي تبدأ في الولايات من التجمّعات الحزبية المحلية، والتنافس بين المرشحين، حتى يتميّز من خلال ذلك كله المرشحون البارزون على النطاق القومي، وتظهر في الطريق إلى ذلك محطات كبرى على مستوى الولايات، مثل الانتخابات الحزبية التمهيدية والمؤتمرات التحضيرية في نحو عشرين ولاية، يوم الثلاثاء الكبير (ثاني ثلاثاء من شهر آذار من السنة الانتخابية) والثلاثاء الصغير (أول ثلاثاء من شهر شباط من السنة الانتخابية) الذي برزت أعرافه في الانتخابات التمهيدية منذ عام 2004م، لتتوج الجهود أخيراً بالمؤتمرات القومية للحزبين الرئيسيين الديموقراطي والجمهوري.

إذ جرت العادة أن يُعقد المؤتمران القوميان للحزبين، صيف السنة الانتخابية وبمعدل كلّ أربع سنوات مرّة (49 مؤتمراً قومياً للديموقراطيين؛ مقابل 43 للجمهوريين منذ التأسيس حتى سنتنا الانتخابية هذه) ليختار المندوبون مرشح الحزب بالاقتراع السري، وتبدأ بعد ذلك الدعايات المكثفة والمناظرات، والجولات في المدن والولايات، لاسيّما المتأرجحة منها، حتى بات يصح القول بأن مواسم الانتخابات الرئاسية، هي من أعظم مهرجانات السياسة في أميركا.


آلية يوم الانتخابات

ينجر هذا التركيب بل قل التعقيد على آلية يوم الانتخابات أيضاً، وهي تتوزّع ما بين التصويت الشعبي العام والنخبوي الخاص الذي تمارسه الهيئة أو المجمع أو الكلية الانتخابية، وما ينجم عن كلّ ذلك من أسئلة نظرية والتباسات عملية. فإذا قمنا بمتابعة الشاشة مساء يوم الانتخابات، نجد أن النتائج التي تفرزها على مدار ساعات تُبرز حقلين من الأرقام، الأول أرقام مليونية لكلّ مرشح من المرشحين البارزين (هاريس الديموقراطية وترامب الجمهوري في الانتخابات الحالية) وإلى جوارها في الطرف الآخر من الشاشة، جدول أرقام بالعشرات غالباً ما يتصاعد ببطءٍ شديد.

يعكس الحقل الأول ما يُطلق عليه التصويت الشعبي في الولايات، وهو تصويت مليوني غالباً ما يتجاوز المائة مليون ناخب، كما رأينا ذلك في الدورات الانتخابية خلال ربع قرنٍ خلا؛ فيما يعكس الحقل الثاني ما يُطلق عليه أصوات المجمع أو الهيئة أو الكلية الانتخابية، لتكون الحصيلة هي ما يسمى النظام الانتخابي المزدوج الذي يجمع بين التصويت الشعبي العام والنخبوي الممتاز، والحسم للثاني وليس للأوّل، إذ لن يصل المرشح إلى البيت الأبيض إن لم يحُز الأغلبية المطلقة لأصوات المجمع الانتخابي، ولو فاز بالأغلبية الشعبية.


المجمع الانتخابي

ليس النظام الانتخابي المزدوج من إنشاء القانون أو من صيرورات عمل الحياة السياسية في أميركا، بل هو من تقنينات الدستور، ومن اختراعاته الأصلية. فعلى شهرته العالمية ومحوريته المحلية، يُعد الدستور الأميركي من أقصر الدساتير العالمية، إذ لا تتجاوز محتوياته لحظة إقراره في 17 أيلول 1787م؛ المواد السبع، بالإضافة إلى التعديلات التي أدخلت عليه لاحقاً وبلغت (27) تعديلاً حتى أيار عام 1997م (يُنظر: الحكومة والإدارة العامة في الولايات المتحدة الأميركية، د. عبد الفتاح ياغي، ص: 391 فما بعد).

ما يهمنا من الدستور الأميركي بهذه المناسبة هو مادته الثانية المخصّصة للسلطة التنفيذية، بفقراتها الأربع والبنود التي تحتها. فالبند الثاني من الفقرة الأولى ينص على أن لكلّ ولاية أن تعيّن عدداً من الناخبين، يكون مساوياً لمجموع عدد الشيوخ والنواب الذين يمثلون الولاية في الكونغرس العام للولايات المتحدة. لقد مرّ (237) عاماً على وثيقة الدستور الأميركي، تغيّرت فيها أشياء كثيرة في أميركا بما فيها التعديلات السبعة والعشرين التي أُدخلت على الدستور، والتطورات الكبيرة التي شهدتها الحياة السياسية وتجربة الحكم في أميركا، لكن بقيت هذه المادّة عن المجمع الانتخابي على حالها، لم تُمسّ بتعديل أو تغيير قطّ.

ما هو المجمع أو الهيئة الانتخابية وكيف تعمل؟ المجمع الانتخابي هو هيئة مكوّنة من (538) مندوباً، هم اليوم مجموع مجلس الشيوخ (100 عضو) الفدرالي، بالإضافة إلى الكونغرس الفدرالي (435 عضواً) فضلاً عن (3) أصوات مخصّصة لمقاطعة كولومبيا مقر واشنطن العاصمة، ليكون مجموعه الكلي (538) صوتاً، لا يمكن لأي مرشح أن يكون فائزاً بالرئاسة مهما بلغت حصته من الأصوات الشعبية، إذا لم يُحرز الأغلبية البسيطة من أصوات مندوبي المجمع؛ وإذا لم يكسب (270) صوتاً من هذه الأصوات؛ المختارة (أسس الحكم في أميركا، الترجمة العربية، ص: 190 فما بعد).

بهذا يتضح أن اختلاف الوزن الانتخابي بين ولاية وأخرى من الولايات الخمسين، يعود في المحصلة الأخيرة إلى عدد أصواتها في المجمع الانتخابي أو الهيئة أو الكلية الانتخابية. فولاية تكساس مثلاً تتقدّم على ولاية ويمنج، لأن للأولى (34) صوتاً (صوتان لمندوبَيْها في مجلس الشيوخ والبقية لمندوبيها في الكونغرس) بينما لا يزيد أصوات ويمنج في المجمع على (3) فقط، هي حصيلة ممثليها في مجلس الشيوخ والكونغرس. وبهذا اللحاظ نفسه تكتسب ولاية كاليفورنيا أهميتها القصوى في المنافسات الانتخابية، لأن محفظتها في المجمع الانتخابي تبلغ (55) صوتاً، ومحفظة نيويورك (31) صوتاً، وفلوريدا (27) صوتاً وهكذا.

وهذا يؤشر إلى أن ميزان الاختلاف في عدد أصوات المحفظة الانتخابية لكلّ ولاية داخل المجمع الانتخابي، يعود بدوره إلى الاختلاف في عدد ممثليها داخل الكونغرس الاتحادي، دون مجلس الشيوخ، لأن تمثيل الولايات متساوٍ داخل مجلس الشيوخ الاتحادي، بمعدّل ممثلَيْن اثنين لكلّ ولاية، صغرت أم كبُرت، بعكس مندوبيها في الكونغرس الذي يعتمد عددهم على حجم سكان الولاية، ومن ثمّ فهو يكبر ويضيق بحسب الكثافة السكانية.


التصويت الشعبي

لا أعرف على وجه الدقة ما هي قصة أميركا مع يوم «الثلاثاء»، إذ يبرز هذا اليوم على مسار الانتخابات في محطات مهمّة، مثل «الثلاثاء الكبير» و»الثلاثاء الصغير» كما جرت العادة أن يكون أول ثلاثاء من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة الانتخابية، هو يوم الاقتراع الشعبي.

مما مرّ أتضح أن الانتخابات الرئاسية تخضع إلى نظام مزدوج يجمع بين مرحلتين، الأولى هي التصويت الشعبي، والثاني هي الاقتراع السرّي لأعضاء المجمع الانتخابي، والمرحلة الثانية هي الأساس في حسم النتيجة، ومن يكون الرئيس، بصرف النظر عن حصيلة التصويت الشعبي. ومع ذلك، فإن هناك علاقة عضوية تشبُك بين المرحلتين؛ بين التصويت الشعبي العام، والتصويت الخاص داخل المجمع أو الكلية الانتخابية.

فخلافاً لما قد نتصوّره، فإن الناخب الأميركي لن يصوّت في يوم الثلاثاء بعد القادم (5 تشرين الثاني) مباشرةً إلى المرشح الرئاسي الذي اختاره، بل إلى ممثلي المجمع الانتخابي في ولايته. أجل هناك بطاقة اقتراع عليها اسم المرشح ونائبه (وأحياناً أسماء لمرشحين آخرين مستقلين أو من غير الحزبين الديموقراطي والجمهوري). لكن الاقتراع الشعبي لا يتجه إليهما مباشرةً، ومن ثمّ فإن الناخب في التصويت الشعبي لا يختار الرئيس ونائبه مباشرةً، بل يختار مندوبيه في المجمع الانتخابي، والمندوبون هم من يختار الرئيس، لتكون الحصيلة هي نظام مزدوج يصوّت الناخب فيه لاختيار المندوبين، وتقع على عاتق المندوبين في المجمع الانتخابي اختيار الرئيس. مع ذلك فالترابط واضح بين العمليتين أو المرحلتين، لأن المندوب عن الدائرة أو الولاية محدّد الهوية سلفاً، فهو إما ديموقراطي أو جمهوري (وأحياناً مستقل). وعندما يصوّت الناخب الشعبي لصالح المندوب الديمقراطي، فسيكون كمن صوّت للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، وإذا صوّت للمندوب الجمهوري فسيكون كما لو صوّت إلى المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، لتكون الحصيلة أن صوت الناخب الشعبي هو موجّه لصالح مرشح بعينه، لكن بطريقة غير مباشرة (أميركا من الداخل، د. جمال سلامة علي، ص: 310).


المندوبون المنشقون

يطرح التعقيد في النظام الانتخابي الأميركي التباسات عملية كثيرة على أرض الواقع، فضلاً عن الإشكاليات النظرية. أول التباس هو مدى أمانة المندوب في الثبات على الجهة التي يمثلها، ومن ثمّ التصويت للمرشح الذي أراده الناخب الشعبي. فقد يحصل أن ينقلب المندوب المفترض أنه جمهوري ليصوّت في المجمع، إلى المرشح الديمقراطي أو بالعكس. ليست هذه حالة افتراضية بل حصلت وقائعها عملياً في عدد غير قليل من المواسم الانتخابية، كما حدث مثلاً في الانتخابات الرئاسية في الأعوام 1960، 1964، 1968 و1976م (تُنظر التفاصيل: أسس الحكم في أميركا، ص: 192).

في ضوء ذلك كله قنّنت نحو (35) ولاية أصول ضبط التصويت في المجمع الانتخابي، إذ منعت المندوب المسجّل مسبقاً ديمقراطياً أو جمهورياً، أن يصوّت لمرشح رئاسي مخالف لانتمائه، وذلك منعاً لما أُطلق عليها ظاهرة انشقاق المندوبين أو الخيانة في التصويت، بالتحوّل من مرشح إلى آخر. لكن المشكلة بقيت على حالها في الولايات التي لم تسنّ هذا القانون، كما الولايات التي سمحت بالاقتراع إلى المندوبين المستقلين؛ هؤلاء المندوبون الذين يمتلكون الحرية للتصويت لأيّ مرشح شاؤوا، وهم قلة على كلّ حال.

من خلال ما مرّ قد يمكن القول أن تقاليد الممارسة السياسية في أميركا الآن، قد خفّفت إلى حدّ كبير بقوّة القانون والأعراف معاً، من مفاجآت انشقاق المندوبين، أو تقلّب الولاء من مرشح حزبهم إلى مرشح الحزب الآخر عبر ظاهرة تبدّل الولاء، لتقل تبعاً لذلك ما أُطلق عليها بظاهرة “خيانة” اتجاهات التصويت الشعبي ورغبات الناخبين الشعبيين، لكن ذلك لم ينهِ المشكلة تماماً.


رؤساء الأقلية

من الالتباسات العملية للنظام الانتخابي المزدوج، هو بروز ظاهرة رؤساء الأقلية. وهي الحالة التي يصل فيها الرئيس إلى البيت الأبيض، رغم أنه لم يحُز على أصوات الأغلبية في الاقتراع الشعبي، بل يكون غريمه هو صاحب الأكثرية، لكنه بلغ الرئاسة بأصوات أغلبية أعضاء المجمع الانتخابي. وهذه مفارقة كبيرة من مفارقات النظام الانتخابي الأميركي، كانت ولم تزل تحكم تجربة السياسة والحكم في أميركا.

من التأريخ السياسي الأميركي القديم أمامنا تجربة الرئيس الجمهوري روثر فورد هايز الذي أُعلن فوزه بالرئاسة في انتخابات عام 1876م، رغم تفوّق غريمه الديمقراطي عليه بالأصوات الشعبية. كذلك تكرّر الحال مع الرئيس الجمهوري أيضاً بنيامين هاريسون، الذي أُعتبر فائزاً، مع تفوّق منافسه الديمقراطي عليه بالأصوات الشعبية؛ وقد تمّ ذلك كله من خلال ما حصلا عليه من أغلبية أصوات المجمع الانتخابي. من صور عدم التوازن بين الأصوات الشعبية والمجمع الانتخابي، ما جرى مثلاً في انتخابات عام 1960م عندما حصل كيندي على ( 49,7 بالمئة) ونيكسون (49,6 بالمئة) من الأصوات الشعبية، لتكون الكفة لصالح كيندي الذي حظي على (303) أصوات من المجمع الانتخابي، مقابل (219) لنيكسون.

أما بشأن الميزان المقلوب أو ظاهرة رؤساء الأقلية المعاصرين، فمثال ذلك ما حصل عام 2000م عندما تفوّق المرشح الديموقراطي آل غور على الجمهوري بوش الابن، بفارق (540) ألف صوت شعبي، لكن الرئاسة حُسمت لبوش عندما حصد في المجمع (271) صوتاً، مقابل (266) لآل غور. أما الظاهرة الأكبر لهذا الخرق الكاشف عن المسافة بين اتجاهات التصويت الشعبي ورغباته، وخيارات الأقلية الممتازة، هو ما حصل في انتخابات عام 2016م، عندما حصلت الديمقراطية هيلاري كلينتون على (65,844,610) صوتاً شعبياً (48,1 بالمئة) مقابل (62,979,636) لترامب (46 بالمئة) ومع ذلك أُعلن عن فوز ترامب بعد أن حصد (306) أصوات في المجمع الانتخابي، مقابل (232) لهيلاري.


التعديل المستحيل

قد تكون ثمة دواعٍ أملت على مدوني الدستور اللجوء إلى النظام المزدوج، وعدم إقرار اختيار الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، نظراً للوضع المضطرب الذي رافق مؤتمر فيلادلفيا قبيل إقرار الدستور عام 1787م. وربما أيضاً رغبةً منهم في عدم حصر المهمّة بالكونغرس وحده، ومن ثمّ إيجاد آلية ثالثة تجمع بين التصويت الشعبي الأكثري والنخبوي الأقلي؛ لكن أن تستمر الحال على ذلك نحو (250) سنة، فهذا هو السؤال الذي أثار المزيد من الجدل والشك معاً.

لقد واجه النظام المزدوج نقداً متواصلاً في أميركا لصالح تعديله إلى انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، دونما حاجة إلى المجمع الانتخابي. بيدَ أن الواقع بقي على حاله على مدار الرؤساء الستّة والأربعين الذين توالوا على الحكم. وما ثمة بادرة في الأفق تشير إلى تعديل الدستور وإلغاء المجمع الانتخابي، والركون في اختيار الرئيس إلى الاقتراع الشعبي وحده، رغم أن من بين من طالب بالتعديل رؤساء ونوّاب كُثر وأعضاء في مجلس الشيوخ، ربما كان الصوت الأبرز من بينهم هو دعوة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في شهر آذار عام 1977م.

أضف إلى التفاوت بين التصويت الشعبي والنخبوي، سلبيات أُخر ارتبطت ولم تزل بهذا النظام، من قبيل التمييز بين الولايات، بحكم عدم مجاراة النظام المزدوج لخريطة المتغيّرات الديموغرافية للولايات، لاسيّما الجانب السكاني، وما يرتبط خاصة بالأصوات التمثيلية للولايات في المجمع الانتخابي. يُضاف إلى ذلك ما يعود إلى المزاج الانتخابي الشعبي، وتوجهاته المتدافعة بشدّة، بين ما يُعرف باليمين واليسار الأميركيين، وما يقع بينهما من طبقات مركبة وتيارات.

من وراء الإصرار على الممانعة ضدّ التعديل أسباب متعدّدة، وللظاهرة مجموعة من نظريات التفسير تعود إلى جذور عدّة، من بينها الجانب الرمزي المخيالي، والالتفاف الأميركي الشديد حول الأبطال ورمزيات القوّة والشخصيات الفردية. لنلحظ مثلاً أن تأريخ أميركا في الاستقلال هو تأريخ بضعة من القادة التاريخيين؛ وفي الدستور هو تأريخ الآباء المؤسّسين والدستوريين؛ وفي الرئاسة هو تأريخ الرؤساء الأقوياء المتميزين؛ وفي الإدارات الحاكمة هو تأريخ أدوار الرجال المؤثرين، تأريخ دالاس وماكنمارا، وكينان وكيسنجر، وبرجنسكي وكونداليزا رايس وديك جيني ورامسفيلد، وولفوتيز وبولتون إلى آخر القائمة.

المجمع الانتخابي في وجوده ودوره وقوته يعدّ من هذه الزاوية رمزية أخرى من رمزيات طغيان الفردية وشخصياتها، في التكوين النفسي للفرد والمجتمع الأميركي، واستمرار وجوده يتجاوب مع هذه الحاجة النفسية للإنسان والمجتمع الأميركي.