زاج.. يا للمزاج !

الصفحة الاخيرة 2024/11/03
...

محمد غازي الأخرس

ومما قاله الجواهري في مقصورته: تريك العراقي في الحالتين.. يسرف في شحّه والغنى، وكان بصدد وصف دجلة وتطرّفه بين الثوران والدعة، والهيجان والسكون،
فهو في ذلك صورة عن العراقي المتطرف، والإشارة هنا تذهب إلى تأثير البيئة في الإنسان كما قال باحثون كثر. ابن خلدون كان أول من ربط بين البيئة والخصائص النفسية للإنسان، ثم تكررت الفكرة عند غيره، هنري فرانكفورت وثوركيلد جاكوبسن، جمال حمدان، جواد علي، ناهيك عن علي الوردي وسواه.
التطرف في المزاج إنما هو نتاج لتطرف البيئة، لهذا يشبه العراقي دجلة والفرات. بغتة، يندفع الطوفان أو تهب العاصفة، فيجد الفلاح نفسه في العراء، أو ينقلب
مركب الصياد كما جرى مع آدابا الطيب الذي كانت ردة فعله أن كسر جناح الريح وكفر بالآلهة.
لعل الدكتور يوسف عز الدين أروع من قدم مقاربات في هذا الجانب عبر شذرات عابرة بثها في كتبه. يقول إن حياة العراق وطبيعته المناخية تختلف عن كل طبيعة في الوطن العربي، "فهو حار قاتل في الصيف، بارد إلى حد الانجماد في الشتاء".
فضلاً عن أن فيه جذوراً حضارية متباينة، من الإسلام إلى المسيحية، ومن عبدة النار إلى عبدة الأشخاص، بل فيه جذور حضارية من البابلية والهندية والفارسية واليونانية
والآشورية.
هناك آراء مختلفة وتيارات فكرية متباينة، كلها ظهرت في حياة المجتمع وفكره وشعره ونثره. لهذا يبدو العراقي في قلق دائم وحيرة مستمرة، ولا يكاد يستقر على حال، ويمكن أن ينقلب في لحظة بين النقيضين: "يسرف في شحه والغنى" كما يصف الجواهري. إنه ابن دجلة؛ دعته يتخبئ هيجانه، وعقله يواري جنونه، ويا عجبي.