ياسين طه حافظ
كان هذا تمهيداً شرساً قليلا أو كان نشرة استياء من تكاثر الأمثلة السيئة وضياع الحقائق القليلة في الضجيج الكبير. وطبعاً كلما تردت الأوضاع الاجتماعية وعم الفساد بأنواعه، ازدادت كآبة الساعين إلى الله أو إلى الحقيقة، أو إلى الأدب الإنساني الرصين، غير الزائف والمسروق أو الذي تعددت مرات تزويره.
ولكي لا أبدو ساذجاً ضيّق الأفق وأحصر المدى في علبة، أقول هي ليست قضيّة أدب، أو كانت أصلاً قضية سياسية ولكن هاتين من نتائج تدهور الإنسان، نتائج افتقاده لإنسانيته ومجده الاخلاقي. فالحقيقة المؤلمة، هي أن الإنسان يريد أن يكون بسلاحه أو بسلاح غيره، بقواه أو قوة غيره، بنتاجه الذهني وكتابته أو بنتاج غيره الذهني وكتابته أحاول، قدر ما أستطيع، أن أبتعد عن حقائق السياسة. وأحاول قدر ما استطيع أن أبتعد عن حقائق الأدب والكتابة.
وإذا كان سبب الابتعاد الأول عن حقائق السياسة، مفهوماً للكثيرين، فحقائق الأدب والكتابة الادبية لا تقل، في الكثير منها، تزويراً ومصالح واستثماراً واستغلالاً. فثمة الكثير من الكذب والكثير من عائديات الغير ومن الكتّاب تحت اليد، والكتّاب للضرورة وفك الاختناق، والكتّاب الذين لا يخلو منهم مكان ولا مناسبة، خِفاف هنا وهناك لا يثقلهم عمل ولا تشغلهم كتابة. ومثلما يتواطأ السياسيون لتمرير قرار، أو مشروع، يتآمر الكتّاب ويتواطؤون على الكتابة الكاذبة والأسماء الكاذبة. الحقيقة ضائعة في الاثنين، في السياسة وفي الأدب. والعملاء والوسطاء يتلامعون.
لا أدعي فهماً وعلماً، أقول ما جرى على الإنسان يكفي لمحق قارة. مع ذلك استطاع أن يعيش، واستطاع أن يحتفظ ببعض نقيّ من إنسانيته، وما تزال صفوة من البشر يثيرون العجب بسلوك جيدٍ محمود ونتاج جيد وعمل، وطبعاً تترك الصواعق والكوارث آثارها، وأول ما يتعرض للتلف- أو للضرر- المثال، القيم تحاول النجاة، وكثير منها لا ينجو.. الظرف الاجتماعي المدمّر، الزائف، كثير اللغو، لا يمكن أن يترك الحياة بلا عيوب- الفساد ينال كل شيء. الأسف على الصفوة، المنشغلين بالعيادة – أو بالكتابة- أو بانتظار رحمة الله المنقذة من التعاسة اليومية والضلال: المجتمعات، للأسف، مدمر داخلها، مدمرة في الكثير منها، وأنا أتحدث عن الأدب والكتابة وأتحدث عن الموت في البقاع، التي نعيش عليها والعفن الذي نخشى على الخبز منه.
نسيت، أن أبدأ كما يبدأ العلماء: هي "الحاجة لأكون!"، لأؤكد لا إنسانيتي حسب ولكن قوتها وتميزها أيضاً، هذا النزوع يتكاثر حتى يعم في أزمته التدهور، حتى نأسى ونألم مما نرى وندرك كم نرى من الزيف لتلتقي بالحقيقة. يمكن أن أوجز الاشارات الاخيرة بقول أكثر ايجازاً وأوضح:
إذا كنت تأخذ من غيرك فلست كاتباً ولست شاعراً بعد
واذا رأيت غيرك يأخذ منك، قل صرت كاتباً او صرت شاعراً
وكذا الكلام في العلم والأفكار
تذكّرْ هذه القاعدة ولتكن قولاً محتفى به معلقاً على جدار –الغرفة- غرفتك وحين تكتب أو تعمل أو تصلي.
لكن لماذا ازداد هذا التدهور، ولماذا اتسع حتى صار ظاهرة، بل صار لزاماً؟ على أية حال غيري أولى مني في الكتابة عن تدهور الإنسان، عن خسارته لثقافته لسلامته وسلامة عواطفه، قبل أن يبادلها بسواها ولكن هذا لا يمنع من أن أجد خاتمة لكلامي، أو يسلم واحدنا بسقوط الإنسان، بتدرج خسارته لكبريائه، لكرامته، لبراءته، ومن ثم الرضا بالمساومة والفساد.
لم يبدأ التدهور قبل سنوات، بدأ يوم انتبه كوبرنيكوس وقال: الأرض ليست مركز الكون: وقال هي ليست غير جرم له مساره في كون شاسع فيه أجرام وهي جد صغيره بالنسبة لما حولها. هذه انتكاسة اولى. لا، الإنسان، ولا أرضه مركز الكون. أرضه صغيره- وهو إذاً جدا صغير!
الضربة الثانية على يافوخة الفخور المزدهي هي حين قال دارون بأصله الحيواني، وشبه داخله- أحشاءه- بداخل- أحشاء الحيوان! وأخيرا، من بعد، بإبدال قلبه بقلب حيوان ويبقى إنساناً يعيش! ماذا فعل دارون؟ لقد مزج التاريخ الإنساني بالتاريخ الطبيعي وخلط الازبال بالمعاني!
وأخيراً وثالثاً رؤيتنا، صمتنا أو ضحكنا الهستيري، ونحن نرى إنساناً صناعياً يؤدي الكثير من أعمالنا، وينطق بعض الكلمات! هل كانت تلك بدايات انهيار الإنسان، وبدايات خسارات لكبريائه، لنفسه، لأفكاره الخاصة وشكواه، أم إني توسلت بها خاتمة لما أقول.
قلت ما قلت، أسفاً أو حزناً أو تعاطفاً أو نصحاً. فسّروه كما يحلو لكم.
تظل حزينة نغمات الحجر المتدحرج..