ميادة سفر
حفر اسم "مارتن لوثر كينغ الابن" عميقاً في الذاكرة الأميركية السوداء وذاكرة الشعوب المناضلة من أجل الحرية والتحرر، ولأننا نعيش في بلاد ابتليت منذ قرون بأعمال العنف والقتل، والكثير من البؤس والخراب، كان استحضاره جديراً بالاهتمام من خلال ذلك الحلم الذي ناضل من أجله بوسائله اللاعنفية وبدعوته طيلة حياته للحب والسلام، وقد تمكنت الصحفية والمترجمة السورية ميرنا الرشيد من تسليط الضوء على الكثير من تفاصيل حياته ونضالاته، وأخيراً موته برصاصة قاتل حاقد، في كتاب من إعدادها وترجمتها، صدر حديثاً عن دار كنعان في دمشق بعنوان "لديّ حلم" مستوحى من إحدى أشهر خطبه على الإطلاق، ذلك الخطاب الذي أعلن فيه الحلم الذي يناضل من أجله والأهداف التي يسعى لتحقيقها والأساليب التي ينتهجها، بأسلوب غاية في الدقة والاحترافية والسلاسة.
أمسكت المترجمة بتلافيف القصة من بدايتها وحتى آخر سطر في الكتاب، بمتعة سيغوص القارئ في سيرة حياة الدكتور كينغ من المقدمة التي كتبتها بكلمات رشيقة لكنها عميقة المعنى والدلالة، وهي توازن بين العنف واللاعنف مستعرضة احتمالية العوائق والعثرات التي يمكن أن يقدمها أولئك الرافضون لسياسة اللاعنف التي هي جوهر الكتاب وحياة كينغ. "قد ينظر أحدنا إلى اللاعنف باعتباره أمراً يصعب الترويج له"، لكنها تعود لتذكرنا أنه بالنظر لتبعات العنف الكارثية "يظهر اللاعنف بديلاً عقلانياً يمكن أن يكسب تأييداً عالمياً".
يندرج كتاب "لديّ حلم" ضمن كتب السيرة، ويحكي حياة واحد من أكثر المناضلين السود شهرة في العالم، ضمن سرد تاريخي حيناً وسياسي واجتماعي حيناً آخر، لبعض من حياته الشخصية التي لا بدّ منها للتعرف أكثر على مارتن الزوج والابن والمناضل الذي أسهم بالكثير من حقوق السود في أميركا، بعد أن كانوا يعاملون معاملة العبيد بل أسوأ
منهم.
في ستة عشر فصلاً، تسرد الكاتبة والمترجمة ميرنا الرشيد بأسلوبها الرشيق والممتع كثيراً من الأحداث والحوادث التي رافقت حياة الزعيم اللاعنفي "كينغ"، ولكي تفهم تلك الحياة والأسباب التي دفعته للقيام بحركته النضالية، تبدأ بفصل عن تاريخ العبودية في أميركا، وكيف بدأت تجارة العبيد التي راجت بشكل كبير في القرن السادس عشر، وما تبعها من معاناة حتى إعلان تحرير العبيد الذي أصدره الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن عام 1895، والذي لم يحل دون استمرار اضطهادهم ومعاملتهم مواطنين من الدرجة الثانية وأحياناً أقل.
تعرج الكاتبة في أحد فصول الكتاب على شخصية تركت أثرها الكبير في حياة "كينغ الابن" وهو المهاتما غاندي الذي حضر بقوة أفكاره ونهجه اللاعنفي، فقد آمن كينغ بتلك الفلسفة التي وجد فيها الخلاص والأسلوب الأكثر أخلاقية للمناضلين من أجل حريتهم، ورغبة منه في معرفة تلك البيئة التي نشأ فيها غاندي والغوص في ثقافة اللاعنف التي حققت أفضل النتائج في تاريخ النضال ضد الاحتلال البريطاني، سافر كينغ إلى الهند وأمضى أسابيع تحدث فيها عن تجربته في أميركا، ناهلاً ما أمكنه من حياة المهاتما الملهمة. أحدثت رحلته تلك "تأثيراً عميقاً في فهمه للمقاومة اللاعنفية، والتزامه بنضال أميركا من أجل الحقوق المدنية"، لقد شكلت هاتان الشخصيتان أيقونة على مستوى العالم، بما قاما به وما حققاه لأجل شعوبهما، من منجزات من شأنها أن تعيد النظر لمن يرغب ويؤمن أن الحب والسلام يمكن أن يكونا حلاً ناجعاً أكثر من البندقية والدماء.
في مقلب آخر وعلى طرفي نقيض يحضر مواطنه "مالكوم إكس" في حياته بوصفه مناضلاً عنفياً سيحزن كينغ على موته ويعتبر أنه كان بإمكانه تحقيق مكاسب أكثر لو تم التعاون بينهما بشكل أكثر سلمية، إلا أن مالكوم إكس كان الوجه الآخر لنضال السود في أميركا، فقد سخر من سياسة الصدور العارية واللاعنف التي انتهجها "كينغ" وشجع على النضال المسلح، وبالرغم من أنهما لم يتفقا فإن مارتن لوثر وبعد اغتيال مالكوم دعا إلى ضرورة "التعلم من هذا الكابوس المأساوي، فالعنف والكراهية لا يولدان إلا العنف
والكراهية".
شكلت حرب فيتنام حدثاً مفصلياً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، كما في حياة مارتن لوثر كينغ الابن، فقد عارض تلك الحرب بشدة ووقف منها موقفاً مبدئياً يتماشى مع أفكاره وتطلعه لتحرر شعبه وكل شعوب العالم، ووصف الحكومة الأميركية بأنها أكبر ممول للعنف في العالم، الأمر الذي تسبب له بكثير من الانتقادات من قبل الإدارة الأميركية، كما بين مناصروه الذين اعتبروا أن الوقت الآن لنضالهم ولا يحتمل زج قضايا أخرى، لكنه كان ينظر إليها على اعتبارها "قضية أخلاقية ومن الضروري أن يضع لها
حداً".
تضمن الكتاب "لدي حلم" الكثير من تفاصيل وخطب وتحركات المناضل الأسود مارتن لوثر كينغ، ولا يمكن في هذه المساحة الضيقة تسليط الضوء على كل ما جاء في الكتاب من أفكار، يمكن لها أن تشكل خارطة طريق لكل شعوب العالم في وجه آلة الدمار والحرب، هو الحائز باستحقاق على جائزة نوبل للسلام، تكريماً لجهوده بتعزيز التغيير السلمي، وسط معارضة شديدة وتهديدات
بالعنف.
تشكل سيرة حياة المناضل مارتن لوثر كينغ الابن أملاً للشعوب المناضلة والمضطهدة والمقهورة ليكون اللاعنف سبيلاً لتحقيق طموحاتها، لتدرك أن العنف لا يجر إلا العنف، والحقد لا يورث إلا الدماء والخراب. إن حياة "كينغ" جديرة بأن تدّرس ويحتذى بها وتسلط عليها الأضواء، فشعوب هذا الشرق الذي ابتلي بالعنف المتراكم والمتجدد مع كل جيل، عليها أن تقرأ سير أولئك الذين ناضلوا بالكلمة التي لطالما أرعبت الحكام، وحققوا كثيراً من آمالهم وإن دفعوا حياتهم ثمناً لها، وبقي ذكرهم خالداً ناصعاً ونقياً. "قلة هي الشخصيات التي اقتبس من عباراتها، أكثر مما اقتبس من عبارات كينغ" هكذا تنهي الكاتبة سيرة حياة أحد أكثر الشخصيات إلهاماً في التاريخ الحديث، مستذكرة بعضاً من مقولاته عن الحب عن "تلك القوة التي اعتبرتها جميع الديانات المبدأ الأسمى للحياة"، فلم يعد بوسعنا "أن نعبد إله الكراهية أو ننحي أمام مذبح الانتقام"، لتتركنا وحيدين نتأمل ما يجري حولنا، لعلنا نعيد تقييم تلك الأحداث ونتائجها، ونستلهم من الدكتور كينغ وغيره ما ينقذنا مع ما تبقى من
إنسانيتنا.