أ.د. باسم الاعسم
من أخص فضائل وسمات النقد الفارقة، بوصفه نسقاً ثقافياً، ومعرفياً، تقويم مسارات العمل الأدبي أو الفني المنقود، على وفق رؤية متبصرة يمتلكها الناقد الذي ينبغي أن يكون علمياً، وموضوعياً، ومحايداً، وإذا ما اقتضى الأمر أن يكون منحازاً، فالاحتكام يكون للحقيقة بأوجهها كافة، وليس للانفعالات الذاتية، والمكائد الشخصية، والمواقف الكيدية التي تقع خارج السياقات الإبداعية، لأنها تعبير عن مواقف شخصانية، لا تمت بصلة إلى النقد كحقل ابداعي في المقام الأول، وتلك من البداهات.
وليس هناك أعظم من أن يكون الناقد، أو الاديب الذي يمارس كتابة النقد، على قدر كبير من الثقافة، والحصانة، والبداهة، والنزاهة، عند النظر النقدي للتأليف الأدبية، أو الشخصيات الإبداعية، لا تأخذه في قول الحق لومة لائم، ولا يسرح في التنكيل والشتائم، لأن الثقة بالنفس وتقدير الآخر، والجرأة المنضبطة في إصدار الحكم النقدي العابر لما هو غير نقدي، تعد الأساس في تشخيص مواضع الجمال أو القبح، في العمل المنقود.
إن الاحكام النقدية المتعسفة، والمتطرفة، لا يعول عليها في إيضاح حقائق الأمور، في ما يتعلق بالأدباء، أو الأعمال الأدبية، والفنية، على حد سواء، إذ طالما تصدر بعض الاحكام القاسية جداً، بصدد ظاهرة ثقافية ما، أو بقصد تقويم شاعر، أو روائي، أو فنان فتنهال الأحكام المجحفة، كما القذائف الخارقة والحارقة، ولم يسلم من سيل الاحكام المتطرفة إلا ذو حظ عظيم.
والمثير للدهشة، إن الأدباء الكبار ذوي المنجز الفخم، هم أول من تكال اليهم سهام النقد الجارحة، وكأنها عقدةٌ راسخة، وغالباً ما تكون الأحكام سياقية، تنصب على المواقف الاجتماعية أو السياسية للشاعر أو القاص، من دون التوقف عند منجز الاديب نفسه، الذي هو الأساس في تجربته، ونهجه الإبداعي، اللذين يكونان عرضة للدرس، والتقويم، على وفق منهج نقدي، رصين، يؤشر حدود الإبداع من عدمه، وإلا فالمبدع اياً كان، إنسان، لم يكن معصوماً من الزلل، والناقد أو ممن يمارس كتابة النقد ليس شرطياً، وهكذا يفترض، بل خبير جمالي، في المرتبة الأولى، يدون ما يمليه عليه ضميره المهني، وموقفه الإنساني، من دون مراءات، أو أحكام خاويات، بل آراء سديدات، تنبثق من داخلية المنجز، وليست من خارج السياق الأدبي والفني، كما أن التطرف في النقد مذموم، مثلما هو في كل شيء، وأن الاعتدال، أو الانصاف في الحكم النقدي محمود، وأن منجز الاديب أكبر، وأهم ، وأبقى، من كل المواقف الانفعالية، والآراء المرتجلة، إذ إن عظمة المتنبي ليست في مدحه لكافور الاخشيدي، بل في قصائده الخالدات، ذوات الحكم، والأغراض المتعددة، وأن مسرحية "الحر الرياحي" للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ودواوينه البالغ عددها "56"، ومنها قصائده عن الحسين، وتغزله بالعراق، أسمى من مدحه للطاغية، وكذا حال الجواهري ومن سواهم على مر التاريخ.
على أن منجز المبدع، دليل صارخ على وجوده، فلا أحد يجرأ على أن يلغي المبدع، ومنجزه ببساطة متناهية تحت ذرائع ما قال بها النقد، ولا أنزل الله بها من سلطان، ومما يؤسف له في المشهد الثقافي، وجود بعض الاحكام المتطرفة، بشأن قامات إبداعية سامقة، إذ طالما، وببساطة متناهية، يسفه أديب ما، وتصادر ابداعاته، لأتفه الأسباب، أو أن يفضل أديب على آخر، من دون مسوغات دامغة، ولا تشفع لهم زحمة الرسائل، والأطاريح الجامعية، التي أنجزت عن إبداعاتهم، فضلاً عن حضورهم الناشط في الحراك الثقافي والفكري.
إن الأحكام النقدية المتطرفة لا تصمد بوجه النقد الموضوعي، الذي يرفع رايته الناقد الرصين، الذي يزيح بوعيه المتين، وثقافته الراكزة، وأسلوبه الفذ، جميع الاحكام، والآراء التي تحط من شأن الإبداع، والمبدعين.
إن الاختلاف في الآراء، والأحكام، والأساليب، يعد من بديهيات الأمور، لكن الخلاف هو موضع الاشكال، ولذلك تصدر في أحايين كثيرة أحكامٌ لا نقدية، كبيرة، ومتطرفة، من قبيل لا يوجد نقد ولا ناقد، ولا وجود لرواية عراقية، أو مسرح عراقي، وحركة شعرية، وسوى ذلك من أحكام أقل ما يقال عنها إنها جد متطرفة، لم تستند الى رأي علمي سديد، ودلائل نقدية دامغة.
وبدلاً من أن ننشغل بالحراك الثقافي المتنوع، والأصوات المبدعة في حقول الابداع كافة، وكيفية رعايتها، واجتراح السبل الكفيلة بتنمية وتائر الحراك الثقافي، ليبلغ مداه الإقليمي، والعالمي، ترانا نحط من شأن مبدعينا بأحكام سوداوية تضر ولا تنفع، وتعرقل ولا تدفع.
ولنا أن نتساءل، ألم تكن مهرجانات الشعر، والسرد، والمسرح، والتشكيل علامات دالة على ثراء المشهد؟ وتنوعه؟ ألم يتصدر العراق الحداثة الشعرية، ويحوز على سواه في التشكيل، والمسرح؟ ألم تزدهر حركة الرواية، ونقدها في هذا القرن؟ ألم تنجب الحركة النقدية نقاداً ذوي كفاءة عالية؟
إنها شواهد دالة على ثراء الفعل الثقافي، والمعرفي، برموزه الاكفاء، من دون حاجة لذكر الأسماء، التي أضحت راكزة، ومؤثرة، بحيث يشار إليها بالبنان في المحافل العلمية، والثقافية، وأن الرسائل الجامعية شواهد رائعة، على رجاحة العقول العراقية المبدعة، وكذا الحال الجوائز العربية الممنوحة لنقادنا، وأدبائنا، وفنانيننا، بما يرسخ القناعة لدى الآخر، بعلو مكانة المبدع العراقي، وتفوقه في المجالات كافة.
فلننظر بعين واسعة، وروح شفافة، وعقل نير، لثقافتنا، ومثقفينا، فأن خطورة الاحكام المتطرفة تحتكم الى رؤى ضيقة حد أرنبة أنف المرسل، لا تنم عن وعي دقيق، وشاسع، بلا شوائب، تنطبق عليه مقومات النقد الخالص الذي يقدمه الناقد الفاحص لحيثيات المنجز بدراية مؤكدة، بل أن الانفعالية، والشخصانية، والمزاجية، تؤطر صورة الاحكام المتطرفة، فيحكمها النسق اللامنطقي، فتبدو بلا معنى دال، وحقيقي.