وائل الملوك
حيوان "الكلب" الذي يظهر في عروض قدمت على خشبات المسارح العالمية منها والمحلية، وأخذت صدى إعلاميا واسعا، كان لشخصيته دورٌ مهمٌ أمثال مسرحية "الكلب نانا"، حيث جسد في هذا العرض الكلاسيكي شخصية مميزة. و"نانا" هنا ليس بطل المسرحية، ولكنه لعب دوراً مهماً بوصفه كلب مربية الأطفال في عائلة دارلينغ، وأعطى إحساسا بالدفء والمرح. وكذلك نجد ذلك في مسرحية "الكلب الأندلسي" العمل الفني الذي ينتمي إلى المسرح السريالي، كتبه وأخرجه لويس بونويل وسلفادور دالي، حيث يعد "الكلب" هنا جزءا من الرمزية، التي تستخدمها المسرحية لاستكشاف العقل الباطن، كما غيرها من الأعمال التي استندت في قصصها على شخصية "الكلب".
وما قدمه المخرج والمؤلف جواد الأسدي في مسرحية "سيرك" التي عرضت على منتدى المسرح لأربعة أيام متتالية، رؤية مشابهة للأعمال المسرحية العالمية، لكن بعقلية المخرج العراقي، حيث أعطى لشخصية "الكلب" والتي أطلق عليه اسم "دودن" قصة البطل المغيب.
البطل الذي يكشف المستور ويصنع صراعاً بين شخصيات العمل، وخصوصا بعد مقتله من قبل صاحبه "ريمون" نتيجة خوفه من السلطة المتمثلة بـ "الضابط" الغائب. الضابط الذي أفعاله اللا قانونية تظهر عبر مجاميع وثقت الاغتصاب والقتل، من خلال طقوس كانت مشابهة لطقوس بعض مجاميع الشيطان التي ظهرت في العالم الغربي -المعروفة بتغطية أجسادهم بالوشم- مع مساعدة الرؤية الصورية المختارة من ديكور وإنارة وإكسسوارات مكملة للمشاهد.
و"دودن" هي الشخصية المغيبة التي تدور حولها فكرة العمل، وتكون محور ترابط الشخصيات الثلاث ودخولها محور الصراع والحرب الفكرية، بين "كميلة" الملاحقة من السلطة، والتي لعبت دورها الفنانة شذى سالم، و"ريمون" الزوج ومدير السيرك الخائف من السلطة، وبالوقت نفسه المخبر الخاص لهم، ولعب دوره د. علاء قحطان، وكذلك شخصية الروائي والذي قام بأدائها د. أحمد الشرجي، وكشفت عبر الأحداث عن الروائي الذي يعاني من "العقد النفسية "بسب أفعال السلطة.
أما مضمون العمل بشكله العام، فقد كان يعتمد على مفهوم الحرب الفكرية وطرق الخديعة والمناجات بالوقت نفسه، وقوة الاحتجاج والحرب والخديعة في النص المسرحي دائما ما يتم استخدامها كعناصر درامية لتعميق الحبكة وإبراز الصراعات بين الشخصيات. كما وسلط الضوء على الحرب والخديعة ليس فقط كأحداث عسكرية أو تكتيكية أو للتخطيط للقتل، بل كأسلوب للصراع البايروسايكولوجي النفسي لإظهار العقد التي تسكن في النفس البشرية.
وهنا كانت لعبة جواد الاسدي في عمله "سيرك"، من خلال اعتماده على الابعاد السيكولوجية لشخصيات العمل، ولكونه مؤلفا أيضا، اعتمد على اظهار منظور ثيمة النص عبر الحوار المراد ايصاله للمتلقي بالاستعانة بفلسفته الإخراجية على المدرسة الادائية في التمثيل، بمعنى أنه اعتمد على الاداء الدقيق لدى الممثلين من خلال كسر الحواجز التقليدية بين الممثل والجمهور، واختار مكانا للعرض يكون المتلقي فيه اقرب ما يكون لمشاهدة تعابير وجه الممثل، وما يقدم عليه من تجسيد للأداء وإيماءات إلى جانب التأثيرات الصوتية.
ويتضح أن مطرقة الاداء هنا، قد هيمنت على العمل المسرحي وكانت مقصودة من قبل المخرج، وخصوصاً أنه أعطى توقيتات طويلة في سردية الحوار للمشهد الواحد لإبراز قوة الاداء لدى الممثل وإتقان حرفية البنية السردية للنص، لما يحتويه من ألم وفجيعة وخسارة وصراع وحب، حتى أصبح (الأداء، التقنية، التنفيذ) مسيطرة بشكل كبير على إدراك المتلقي للعمل.. أسلوب عمل عليه العديد من المخرجين والمؤلفين العالميين أمثال الكاتب الروسي "انطون تشيخوف" وهي مدرسة خاصة بحد ذاتها.
وفي مثل هذه الحالة، وقع المتلقي البسيط في فخ الانشغال بأسلوب العرض أكثر من انجذابه للموضوع أو الرسالة التي يراد ايصالها، بالرغم من أن الفكرة تقع على الواقع العراقي وما يعانيه، وحتى على الواقع العربي والأحداث الأخيرة التي تجري حاليا.
والفكرة هنا تعكس أحيانا نقدا للفن الحديث، حيث يتم التركيز على الشكل والأداء، بدلا من الجوهر والمعنى، ما يجعل التقنية والإبهار الأدائي في المقدمة على حساب القصة أو الرسالة.
بالنسبة لي، فاعتبرها مراوغة من مخرج يمتلك أعمالا ابداعية وجمالية كجواد الاسدي، خاصة أن أعمال الاسدي دائما ما تجتاح الوسط الفني المحلي والعربي، وهي أشبه باستراحة محارب، ليظهر بعمل آخر يعكس فيه طرقه الجمالية في فلسفة الاخراج المتعارف عليها.
أما المناجاة الأخيرة للمشهد الختامي، كان مصدر قوة العمل حوارا وأداء من قبل الفنانة شذى سالم، وأنا على يقين بأن هذا المشهد لو تم فصله عن العمل، وتم إعطاؤه مساحة أكبر، لأصبح عملا موندراميا يحصد نجاحا باهرا، إلى جانب ابداع ما قدمه كل من د. أحمد شرجي ود.علاء قحطان، كلاهما كانا نسيجين متكاملين لإظهار المضمون الجمالي لفكرة الصراع الظاهر والخفي بين شخصية "لبيد" الكاتب الموهم بالحب والفاقد لأحاسيس الرجولة، بسبب "ريمون" مدير السيرك وصاحب الكلب المغيب وصديق السلطة المغيبة.