{مظلة}.. بلاغة الصمت وقوة الخطاب البصري

ثقافة 2024/11/11
...

 عدنان حسين أحمد

قليلة هي الأفلام الروائية القصيرة التي تراهن على اللغة السينمائية والخطاب البصري وتنجح في هذا الرهان. وليس بالضرورة أن يكون الفيلم ناطقا لكي يوصل المخرج رسالته الفنية، فثمة أفلام لا حوار فيها، ولا تعتمد على اللغة المنطوقة، لكنها تقول أشياء كثيرة وتنقل القصة السينمائية إلى المتلقي بأمانة شديدة. وفيلم "مظلة" للمخرج العراقي حيدر فهد، المقيم في شيكاغو، هو من هذا النوع الذي يراهن على اللغة البصرية ويعول عليها. لا شك في أن المخرج حيدر فهد إلى جانب السينارست أحمد فاخر قد كتبا سيناريو هذا الفيلم بطريقة ديكوباجية، وتتبعا تفاصيل الأحداث المشهدية بدقة ورهافة عاليتين واستطاعا خلال عشر دقائق لا غير أن ينجزا لنا فيلما تعبيريا شديد الحرفية والاتقان.

وإن كان صامتًا وكأنّ الجميع يؤدّون أدوارهم بطريقة "بانتومايمية" صامتة، لكنها تقول كل شيء ببلاغة ترتقي إلى مستوى الشعر ولم تفرّط بالتفاصيل الدقيقة أبدًا.

ولكي نُقنع القارئ الكريم بصحة ما نذهب إليه لا بدّ من شرح هذه القصة أو تأويلها بطريقة منطقية طالما أنّ هذا الفيلم ينحو منحىً تجريبيًا خالصًا لا أثر فيه للصياغات النمطية المألوفة. فثيمة الفيلم تتمحور على طفل يسقط في حالة من الوهم، ويعيش بطريقة فانتازية، بسبب موت والده بغض النظر إن كان هذا الموت طبيعيًا جرّاء المرض أو كِبر السنّ أو التفجيرات الإرهابية، التي هيمنت على غالبية المحافظات العراقية غبّ الاحتلال أو الحرب الطائفية المقيتة، وما تلاها من توترات يعرفها المواطن العراقي، الذي عانى من مرارتها لسنوات طوالا.

ليس من السهل تجسيد مشاعر الطفل (أبو الفضل مؤيد)، وهو يلهث خلف المجموعتين الرجالية والنسائية، ويندسُّ بينهما تارة، ويتجاوزهما تارة أخرى لمرافقة النعش، الذي يحمله أربعة رجال من أهل الفقيد أو من أقربائه أو أصدقائه الخُلّص. وقد جاء ترتيب التشييع بإعطاء المجموعة النسائية الأولوية، فالمرأة هي المُستهدَفة الأولى والمعنية بهذا الفقد والخُسران الكبيرين. وقد رأيناهنّ يلطمنَ على الصدور بينما تحثو زوجة الفقيد التراب على رأسها وقد ساعدها الابن اليتيم في تعزيز هذا المشهد المؤلم، حينما أمدّها بحفنة كبيرة من التراب الذي بات شحيحًا في تلك المضارب المفجوعة، في إشارة واضحة إلى أنّ المصائب كثيرة ولم تُبقِ لنا ما نتعفّر به من تراب. ومع أنّ مَشهدية الفيلم برمته تخلو من الرتابة والملل، إلّا أنّ المرأة الغريبة التي أدّى دورها (حيدر رزّاق) قد كسرت إيقاع الفيلم ومنحته نبرة كوميدية خفيفة، ربما أراد المخرج أن يقول بأن الحياة مستمرة، وأنّ الحزن مهما اشتدّ أو تعاظمّ فلا بد من فرحٍ أو فرجٍ قريب أو ابتسامة صغيرة تفرك صدأ العذاب الذي يحيطنا من كل حدب وصوب.

تتكرر المَشهدية المُحزنة للرجال الذين يتلفّعون باليشاميغ التي توّحدهم في المصاب الجلل وكأنهم كتلة واحدة متضّامة تشترك في تعاطفها الكبير مع أسرة الفقيد، الذي غيّبه الموت العبثيّ الذي جاءت به قوى الشرّ والظلام إلى البلاد التي أنجبت الحرف، واخترعت العجلة، وخلقت خمس حضارات متعاقبة أو يزيد. يتجاوز الصبي المجموعة الرجالية الغارقة في الحزن العميق والصمت المُطبق ليقترب من نعش والده. وحينما يُدهمه المطر يتحوّل النعش إلى (مظلة) تقيه من البلل لنعرف دور الأب في حياة أبنائه الصغار والكبار على حدٍ سواء. فالأب حتى في موته يظل مظلة واقية وخيمة تحمي أفراد الأسرة من المِحن والمنغصات القادمة، التي تأتي إلى العائلة من حيث لا تحتسب.

لا تقف القصة السينمائية المكثفة عند هذا الحدّ، فحينما تذهب الجنازة إلى المقبرة ويتفرّق المشيّعون يعود الصبي المفجوع بوالده، ليجد كرة القدم تنتظره في الشارع المجاور لأحد الملاعب الشعبية، حيث يندس بين أعضاء الفريق وينغمس معهم في اللعب، وكأنه لم يكن منهمكًا في تشيّيع والده إلى مثواه 

الأخير.

جدير ذكره أنّ المخرج حيدر فهد خرّيج قسم الإخراج السينمائي في كلية الفنون الجميلة ببغداد سنة 2002، ولديه شهادة بكالوريوس سينما أيضًا من جامعة نورث ويسترن شيكاغو سنة 2013. أخرج عدة أفلام من بينها "هنا وهناك"، "مورس"، "صفر"، و "مظلة" الذي حاز على الجائزة الثانية في مهرجان بغداد السينمائي الأول سنة 2024. وهذا الفيلم من إنتاج نقابة الفنانين العراقيين، الذي اشترك في مسابقة فضاءات سينمائية جديدة.