حبيب السامر
يبدو هذا ممكناً في وقت ما، مسموحاً تداوله، ومقبولاً عند أغلب الناس في هذه البقعة المضيئة، هكذا يتضح الأمر، يتصرّف بحسن نية ولباقة في موقف كهذا، تربكه الأسئلة المحيّرة التي تنهال عليه كلما قصد المقهى الشعبي في أحد أزقة المدينة، هذا هو مقهاه المفضل، يرتشف قهوته على مهل، يتأمّل الوجوه الغريبة، يرصدها كلما تكرر وصوله، يتبادل معهم ابتسامته المعهودة، لكنها بحذر شديد، ربما لا يريد أن يتقرّب منهم خوفاً من سيل الأسئلة التي يبادرونه بها كلما دار الحديث عن مشاريعه واهتماماته وآخر
سفرياته.
عادةً، تتداخل الأصوات في المقهى مع حركة ملعقة الشاي والأضواء الخافتة، يرغب دائما في الجلوس بمكانه المعتاد، وهو يختار ركنا هادئا، يتأمل الصور المعلقة على الجدران، يرتسم في عينه حزن عميق وهو يتذكر أصحاب تلك الصور ومواقفه معهم، وهم يتبادلون الأحاديث بهدوء وانتباه، لماذا تغير الحال بنا هكذا؟ هذا التساؤل قفز في رأسه وهو يطالع الوجوه الجديدة في هذا المقهى، وهي تتكاثر وتزيح بعض رواده، الذين يتبادلون الأحاديث خارج اهتماماته مع سحب دخان كثيف تتجول في
المكان.
أين غادرت تلك الوجوه، ولماذا تضاءل عدد روّاد هذا المكان الذي كان للجميع ذكريات عميقة، هناك في تلك الزاوية كان يجلس القاص محمود عبدالوهاب، وهنا يتردد في أذهاننا صوت الشاعر حسين عبداللطيف، وهناك يتقابل الكاتب والمسرحي عامر الربيعي مع بعض أصدقائه، تدور الأحاديث وتتشعّب والجميع يصغي إلى من يتحدث، وفي المقاعد الأخيرة يجلس الشاعر أكرم الأمير الذي كان يطيل الجلوس وهو منشغل بدخانه وأوراقه وبعض كتب، القائمة تطول، هناك بعض الأسماء لم تعد تجلس في المقهى نفسه، أو ربما سافرت إلى دول شتى، كلما طرق رأسه متحسّرا، ظهرت له أسماء أخرى، يحاول أن يزيح غمامة الحزن عن عينيه، ويشغل نفسه بالنظر إلى صفحات من كتاب
معه.
- لا بدَّ أن أغير المكان، ربما نجد صحبة تتوافق مع أفكارنا ومدارات نقاشاتنا، حقيقة بتنا نخشى تلك الوجوه، لا تعرف ماذا تريد، يحشرون أنوفهم في أحاديثنا البريئة والتي لا تتعدى الثقافة وبعض أسئلة نتفقد فيها أصدقاءنا الغائبين.
- لا أستغرب من كل شيء في هذا الزمن المضطرب، نعم، كل شيء ممكن، قالها وهو يحاول أن يقنع نفسه أكثر في تغير المكان، قد يتصل ببعض أصدقائه كي يخبروه المكان المناسب الذي يترددون عليه.
- يا لبؤسنا، ضاقت الأمكنة بنا، وصارت بعض عيون الناس تتابع برامج الموبايل الساحرة، وهم يغرقون في ضحكات متواصلة مع أنفسهم، يا للغرابة!، انتبه إلى نفسه وهو يكرر أشياء مثل الهذيانات، وهو يقلب صفحات كتاب قديم، ربما من يتواجدون هنا، يشبهون حالنا، لماذا تضيق بنا الحياة، وهذا الكون أكبر مما
نتوقع.
- كرر ذلك مرات عدة، وصمم أن يغادر المكان نحو مكان أكثر هدوءًا.
- انتبه إلى نفسه وهو يحاور صديقاً قديماً دخل للتو في المقهى، مبادراً إيّاه بسؤال وفي عينيه تتماوج دمعة، أين كنت كل هذه المدة الطويلة، للتو تنامت في رأسي فكرة المغادرة نحو مكان آخر قد نجد أنفسنا فيه، وكلما مرّ الوقت توافد عدد من أصدقائه القدامى، فرح في سره وهو ينادى على رجل المقهى ليجدد له قهوته المعتدلة هذه المرّة!